الإضحاك في رحلة الغفران حاجة نفسية

الإضحاك في رحلة الغفران حاجة نفسية للمرسل وحاجة نفسية للمرسل إليه

لمّا كانت الغاية الّتي إليها نقصد الإنتهاء إلى غهم دقيق لفنّي السّخرية والإضحاك في رحلة الغفران فإنّ هذا الهدف ليس يتسنّى للباحث بمعزل عن المعطيات النّفسية الّتي في ظلّها انبثقت الرسالة ونشأ الردّ.

وهذه الملابسات النفسية الّتي أسهمت في توليد الإضحاك نهجا في الكتابة بعضها يتعلّق بالمرسل المعرّي من حيث هو مصنّف الرّسالة ومبدعها وبعضها يتّصل بالمرسل إليه ابن القارح من حيث هو القادح المباشر لنشأة الرّسالة.

الإضحاك حاجة نفسيّة للمرسل إليه:

إنّ ابن القارح المرسل إليه شيخ استهلك حياته في اللّذة وأفناها في المتعة وأرهقها بالشّهوات. ألم يقل في رسالته إلى المعرّي ” فأمرجت نفسي في الأغراض البهيميّة والأعراض الموثميّة” وعلى هذا الأساس يمثّل المرسل إليه نموذجا لعصر طلّق الفضيلة وأسرته الرّذيلة والشّهوانيّة، ورمزا لشعراء تكسّبوا بالشّعر من أجل الحظوة والمال. غير أنّ وطأة السّنين أشعرته بالإثم وأورثته خوفا من المصير لا سيما وأنّه في أرذل العمر، وهذا الخوف من المصير يتجلّى في قوله” فلمّا بلغت عشر الثّمانين جاء الجزع والهلع” فانبثق عن خوفه من المصير خبر توبته من جهة وثورته على الزّنادقة من جهة أخرى ما يؤكّد أنّ ابن القارح على حدّ تعبير الأستاذ فرج بن رمضان إثنان، ابن القارح الزنديق في الماضي والثّائر على الزّنادقة حينما كتب رسالته إلى المعرّي.

ومن ثمّة فإنّ ثورة المرسل إليه على الزّنادقة ضرب من ثورة التّائبة على الذّات الشّهوانيّة في الماضي، فهي ثورة الذّات على ذاتها رغبة في التّخفيف من جحيم الإحساس بالخطيئة والاطمئنان على المصير. وفي سياق الثّورة على الزّنادقة يقول ابن القارح في رسالته إلى المعرّي ولكنّي أغتاظ على الزّنادقة والملحدين الذين يتلاعبون بالدّين ويرومون إدخال الشّبه والشّكوك على المسلمين ويستعذبون القدح في نبوّة النّبيّين صلوات اللّه عليهم أجمعين

وفي ضوء ما تقدّم نخلص إلى أنّ رسالة ابن القارح إلى المعرّي بقطع النّظر عن دوافعها الظّاهريّة – الاعتذار للمعرّي عن رسالة له من أبي الفرج الزّهرجيّ ضاعت – شهادة المرسل إليه يعيش أزمة روحيّة حادّة وصورة لقلق عميق يعانيه وخشية رهيبة من المصير يكابدها.

فيسلم لنا بمقتضى ذلك أن نفترض أن ما نجده في الرّحلة الخياليّة من هزل وتندّر واستجابة من المعرّي لرغبة خفيّة أو ضمنيّة في رسالة المعرّي ليس حضورا شكليّا وإنّما هو حضور وظيفيّ فإنّ حضور الإضحاك في رسالة المعرّي ليس حضورا شكليّا وإنّما حضور وظيفيّ هو في بعد منه استجابة لرغبة خفيّة في رسالة المرسل إليه.

إلاّ أنّنا وإن افترضنا أنّ الإضحاك في رسالة الغفران قد يكون استجابة علائيّة لحاجة نفسيّة عند ابن القارح هي الاطمئنان على المصير فإنّننا مع ذلك إميل إلى اعتباره موقفا من المرسل إليه أساسا نتيجة تفطّن المعرّي لنفاقه ووعيه بفساد توبته. فموقف المعرّي في ظاهره اقتناع بتوبة ابن القارح ولكن وراء الاقتناع الظّاهريّ خداع كبير.

ولا عجب، فالدّيباجة مركّزة تركيزا امّا على المرسل إليه من حيث هو نموذج للإيمان والطّاعة والمعرّي في ديباجته تلك حاول أن يبدو بريئا لكن الازدواجيّة في كتابته جعلت ابن القارح ضحيّة السّخرية الأولى والمظهر الأوّل لذلك العبث به مقدّمة الرّسالة العلائيّة الوجدانيّة الأفعوانيّة على حدّ تعبير الأستاذ فرج بن رمضان الّتي اعتبرتها بنت الشّاطئ أيضا مقدّمة ثعبانيّة سوداء حيث تقول ” فمثل هذه المقدّمة لا يمكن أن تأتي عبثا ولا من الهيّن أن نتصوّر أديبا يردّ على رسالة إخوانيّة فيلقاها بتحيّة مشحونة بأنفاس الحيّات بمختلف أسمائها وسمّها وحماطتها”.

الإضحاك حاجة نفسيّة للمرسل:

إنّ المعطيات النّفسيّة الّتي أسهمت في نشأة الإضحاك في رحلة الغفران متشعّبة معقّدة، فالمعرّي شأنه في ذلك شأن غيره مثقّف غازل الدّنيا وطلب المنزلة والحظوة إلاّ أنّه ورث المرارة وفاز بالغبن والرّفض وتنضاف إلى هذا الإحباط والفشل محنته الذّاتيّة بفعل العمى وتشوّه الخلقة بالجدري وموت أمّه وأبيه ليجد نفسه وحيدا لا سند له، في شقاق وصدام دائمين مع الوجود والموجود، فكلّ هذه المحن وغيرها كثّفت نقمة المرسل وتشاؤمه وعمّقت جدّيته وبؤسه حتّى قرار العزلة والطّلاق مع العالم حوله. وعلى هذا الأساس فإنّ السّخرية في الغفرانليست عنصرا أدبيّا أو اختيارا أسلوبيّا فقط وإنّما أيضا حاجة نفسيّة للمرسل.

فالعمى الّذي نشأ عليه المعرّي رمز لموت التّواصل بينه والعالم حوله، وإحباطه رمز لموت طموحه الذّاتيّ في المنزلة والحظوة واعتزاله عالم النّاس رمز لموته المجازيّ وإلزامه نفسه بسلوك حياتيّ مرهق نتيجة زهده وتصوّفه رمز لموت الإنسان فيه ومن ثمّة أليس الإضحاك حاجة نفسيّة ضروريّة للمرسل به يخفّف من حدّة المعاناة ويقلّص من حجم الآلام وجحيم الذّات؟؟.

إلاّ أنّ الأشدّ قساوة وأثرا أنّ انغلاقه على ذاته في بيتهبل في سجونه الثلاثة ( سجن ابت والجسد والعمة ) فتح وعيه على مأساة أعمق هي قضايا الوجود الإنسانيّ ليصطبغ شعره بمقتضى وعيه الشّقيّ بمسحة عدميّة قلقة تدعو إلى فراغ الكون من الإنسان والإنتحار الجماعيّ.

ومن ثمّة أليست السّخرية أيضا قرينة الحيرة والمأساة ؟؟؟ ولا غرابة ألم يقل خليل هنداوي بينما أبو العلاء نقم في رسالته على نفسه: فلست تدري أ شاكّ هو أم مؤمن؟؟ أ حائر هو أم ساخر؟؟ أ راض أم ناقم؟؟ أم هو كلّ هؤلاء جميعا

مقالات ذات صلة

  • الإضحاك في رحلة الغفران نقد و احتجاج
  • السخرية في رحلة الغفران إمتاع
  • السخرية من ابن القارح في رحلة الغفران
  • الإضحاك في رحلة الغفران حاجة نفسية
  • الإضحاك في رحلة الغفران تقليد أدبي
  • الإضحاك في رحلة الغفران بين الحاجة والاحتجاج
  • تجليات الخيال في رحلة الغفران
  • مصادرالخيال في رحلة الغفران
  • مفهوم الخيال في رحلة الغفران
  • الجرأة في رحلة الغفران
  • تدريب على إنتاج مقال أدبي رحلة الغفران
  • إحكام البناء في رحلة الغفران
  • إحكام البناء في قسم الرحلة ( الجزء الثاني)
  • إحكام البناء في رحلة الغفران ( الجزء الثّالث
  • السخرية في رحلة الغفران الآليات والمقاصد
  • السارد في رحلة الغفران أنواعه و مواقعه
  • وظائف السارد في رحلة الغفران:
  • السخرية من ابن القارح
  • النسيج الفني المثير:توليد الحكاية من نصوص تراثية
  • المعري محاجج لواقع المجتمع: الطريقة والقضايا والغايات
  • المعرّي محاجج لثقافة العصر:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا يمكن نسخ هذا المحتوي

شكرا

Scroll to Top