المحبة في الأدب الرومنطيقي

المحبة في الأدب الرومنطيقي قيمة سامية:

جعل الرّومنطيقيّون المحبّة القيمة السّامية الّتي توحّد بين البشر وتتجاوز ما يفصلهم من أعراق وأديان وألوان ولغات، فالحبّ هو النّور الّذي يأبى أن يوضع تحت مكيال الشّرائع المستعبدة “والمحبّة لدى جبران جبران بيدر وغلال وينابيع ثرة و رياض تمتلئ بتيجان الزهر يعطي منها و   يفيض عطاء “طنسي زكا .

وقد اتّخذ الحبّ مع جبران طابعا صوفيّا تجاوز به طبيعة اللّحم والدّم  وتعالى به فوق المادّة ليصل إلى المحبّة الشّاملة لكلّ شيء في الوجود فمن يحبّ كمن يتعبّد يتخلّى عن طينته الكثيفة المظلمة وتتجلّى في أعماق النّفس والوجود وهو على حدّ تعبير جبران ” علويّ لا يعرف الجسد لأنّه الغنيّ ولا يرجع الجسد لأنّه في داخل الرّوح، ميل قويّ يغمر النّفس بالقناعة مجاعة عميقة تملأ القلب بالاكتفاء.” كما يصرّح في العوصف. والمحبّة عند جبران القيمة الأبديّة الّتي تعبر العصور ” فالأبديّة لا تحفظ إلاّ المحبّة لأنّها مثلها” على حدّ عبارته، ويضيف في ” على باب الهيكل” متسائلا عن معنى الحبّ الّذي دغدغ كيانه ” وما هذا الّذي تدعوه حبّا؟ أخبروني ما هذا السرّ الخفيّ الكامن خلف الدّهورالمختبئ وراء المرئيّات السّاكن في ضمير الوجود؟ ما هذه الفكرة المطلقة الّتي تجيء سببا لجميع النّتائج وتأتي نتيجة لجميع الأسباب؟ ما هذه اليقظة الّتي تتناول الموت والحياة وتبتدع منها حلما أغرب من الحياة وأعمق من الموت؟”

وفي العواصف وجدنا جبران يهاجم الكهنة والمتغطرسين ويحفر القبور ليدفن فيها الخائفين المستسلمين في عنف، تبدو فيه ظاهرا كراهيّة وسخطا يرتفعان إلى حدّ السّخط فهو حفر القبور ليدفن فيها كلّ ما ينغّص سعادة الانسانيّة وهو يسخّر طاقة إبداعه في محاولة الوصول إلى كلّ القلوب بما في ذلك أولئك الّذين يسخط عليهم ويعنف في نقدهم وهل الثّورة على ماضي الحياة من ظلم وحمق وجهل وضعف إلاّ محبّة كبرى للإنسانيّة ، استمع إليه يخاطب بني أمّه ” إنّي أكرهكم لأنّكم تكرهون المجد والعظمة، أنا أحتقركم لأنّكم تحتقرون نفوسكم.” أليست كراهيّته هذه نابعة من حبّ خالص صاف ” لا بأس فإنّي سأحبّهم أكثر… نعم، أكثر فأكثر ولكنّي سوف أسدل على محبّتي ستارا من البغض وأستر عواطفي بشديد كراهيّتي”.

المحبّة عند جبران مصدر كلّ الخير وجبران الأديب يحبّ ويتألّم في محبّته ككلّ الرّومنطيقيّين لأنّ الألم يقرّبه إلى نفسه وإلى اللّه ويسقط عنه ثقل الطّين الّذي منه الجسد فيغدو روحا أو طيفا يتعبّد للمحبّة ويدعو إليها في غير ملل أو كلل.

المحبة في الأدب الرومنطيقي قيمة سامية هي جوهر الوجود للبحث عن الحقيقة العميقة الأكثر جوهريّة في الوجود:

هذه الحقيقة لا تدرك بالعقول أو الحواسّ القاصرة وإنّما بالقلب والمشاعر لذلك وصلها الرّومنطيقيّون بمبدإ آخر هو الانطلاق من الفرد والانتهاء إليه لأنّه المؤهّل لبلوغ الحقيقة في مقابل ” الحقيقة ” الجماعيّة الزّائفة، فالحقيقة كامنة في الذّات الفرد في قلقها وغربتها لا في اتّباعها للكواكب السّائرة وفي العواصف صور كثيرة لهذا التّمرّد الفرديّ على الحقيقة الجماعيّة الطّاحنة، استمع إلى جبران معبّرا عن ذلك واصفا نفسه إذ يقول في ” المخدّرات والمباضع “: ” أنا متطرّف حتّى الجنون، أميل إلى الهدم ميلي إلى البناء وفي قلبي كره لما يقدّسه النّاس وحبّ للبناء لما يأبونه ولو كان بإمكاني استئصال عوائد البشر وتقاليدهم لفعلت.” ويرجع هذا التّمرّد العنيف إلى أنّ جبران يرى الحقيقة العميقة في الذّات الفرد تدركها باحساسها وانفعالها أمّا الحقيقة الجماعيّة فزائفة وفي ذلك تقديم العاطفة والوجدان على العقل فالعالم الدّاخليّ للإنسان بانفعالاته وغوامضه وأحلامه هو المصدر الحقيقيّ للتّعبير الأدبيّ والصّدق فيه، لذلك فإنّ سبيل الإبداع يكمن في تحرير الخيال والانفعال من رقابة العقل الظّاهر.

لقد رأى أدباء الرّومنطيقيّة في البلدان العربيّة أن يكون الأدب ذاتيّا يصوّر خلجات صاحبه وأن يكون مداره العاطفة لا العقل كما هو سائد وأجلّوا الخيال ومنحوه أهمّة خاصّة وجعلوه معيار الشّعريّة ومن هذا المنطلق برز هؤلائ الأدباء فرديّين بما في الفرديّة من معان فهم لا يعنون بالخارج، وإنّما يعنون بأنفسهم وليس للمجتمع عندهم قيمة إلاّ بقدر إحساسهم به وليس شعر الشّاعر أو نثر النّاثر عندهم إلاّ تجربة ذاتيّة تتقدّم به خطوة باتّجاه كنه الوجود ذلك المجهول القصيّ البعيد.