يمكن التأكيد على تحرر مسرحية شهرزاد من قوانين المسرح الأرسطي الكلاسيكية انطلاقا من القرائن التالية:
1: التمرد على وحدة المكان:
اشترط أرسطو على المسرحية الكلاسيكية أن تجري في فضاء درامي واحد ثابت ← خروج الحكيم عن هذا الشرط بتنويع الأمكنة حسب المناظر: “طريق مقفر” (المنظر الأول)، “قاعة الملكة” (المنظر الثاني)، “بهو الملك” (المنظر الثالث)، “بيداء” (المنظر الرابع)، “بهو الملك” (المنظر الخامس)، “خان أبي ميسور”(المنظر السادس)، “خدر شهرزاد” (المنظر السابع). ← نلاحظ أن مكانا واحدا يتكرر حضوره مرتين في مناظر مسرحية شهرزاد السبعة هو “بهو الملك” بينما بقية الأمكنة تحضر مرة واحدة.
2: التمرد على وحدة الزمان:
اشترط أرسطو على المسرحية الكلاسيكية أنيكون مداها الزمني يوما واحدا يشهد تطور الفعل الدرامي من بدايته إلى نهايته ← عدم احترام الحكيم هذا الشرط وذلك بتجاوز مسرحية شهرزاد وحدة اليوم: الأمثلة:
أ: تجاوز مسيرة البطل شهريار ورحلته من أجل التحرر من الجسد ومعرفة الحقيقة المطلقة وحدة اليوم ← قال الوزير قمر “بعد غيبة طويلة وفراق طويل…” (المنظر السادس).
ب: مسرحية شهرزاد حسب مناظرها السبعة لوحات نهارية وأخرى ليلية: المناظر الليلية: المنظر الأول والثاني والرابع والخامس والسادس والسابع. – المناظر النهارية: المنظر الثالث. ← كثافة حضور الليل يؤكد على البعد المأسوي لمسرحية شهرزاد.
3: التمرد على وحدة الحدث:
اشترط أرسطو على المسرحية الكلاسيكية أن ترتبط بصراع مركزي واحد لا يتغير ينتهي في تطوره إلى السقطة التراجيدية للبطل ← عدم احترام الحكيم لهذا الشرط بحكم تعدد الصراعات الدرامية في مسرحية شهرزاد من ذلك الصراعات التالية: صراع العقل والقلب، صراع الإنسان والمكان، صراع الحقيقة والواقع، صراع الروح والجسد…. تعدد الصراعات ولد تعدد المآسي في المسرحية: مأساة شهريار، مأساة شهرزاد، مأساة الوزير قمر….. مثال: قيل “إن المأساة في مسرحية شهرزاد مأساة شهرزاد التي ضيعت شهريار فناضلت مريرا لتستعيده، مزدوجة: هي مأساة شهريار الذي ضيع شهرزاد فناضل من جهته مريرا ليستعيدها”.
4: التمرد على وحدة التركيب الدرامي الرئيسية:
اشترط أرسطو على بناء المسرحية أن تخضع إلى وحدة تركيب درامي أساسية هي “الفصل” الذي يحتوي صلبه جملة من “المشاهد”← عدول الحكيم عن “الفصل” بماهو وحدة التركيب الدرامي الرئيسية إلى “المنظر” بماهو وحدة التركيب الدرامي الفرعية. II: مظاهر انشغال مسرحية شهرزاد بالقضايا الإنسانية الخالدة: ← يمكن التأكيد على انشغال مسرحية شهرزاد بالقضايا الإنسانية الخالدة من خلال القرائن التالية:
1: القرائن الفنية:
من القرائن الفنية التي تؤكد تحرر مسرحية شهرزاد من قوانين المسرح الأرسطي
نزوع أسلوب الكتابة نحو الرمزية: ← رمزية الكتابة في مسرحية شهرزاد خلصت المسرحية من أسر القضايا الظرفية لتجذرها في القضايا الإنسانية ← الشخوص في مسرحية شهرزاد أقنعة للأفكار المجردة ورموز متحركة في مطلق المعاني مرتدية أثواب الرموز من ذلك أن شهرزاد رمز الطبيعة والأرض، وشهريار رمز العقل الخالص، والوزير قمر رمز القلب الخالص، والعبد رمز الغريزة الحيوانية.
2: القرائن المضمونية:
من القرائن المضمونية التي تؤكد تحرر مسرحية شهرزاد من قوانين المسرح الأرسطي
استطاعت مسرحية شهرزاد أن تنفلت من قيود للقضايا التالية: القضايا الظرفية لتتجذر في صميم القضايا الإنسانية الخالدة وذلك بإثارتها
أ: منزلة الإنسان في الكون: فشل تجربة انسلاخ شهريار من رتبته البشرية وبقائه إنسانا مشدودا إلى الجسد والمكان تأكيد من الحكيم أن الإنسان ليس وحيدا في العالم وليس إلاها للكون وإنما هو خاضع بالضرورة إلى قوى مفارقة قاهرة له ولا قبل له على قهرها وإنما شرفه في المحاولة لا غير ← قال توفيق الحكيم “الإنسان عندي ليس إله العالم، وهو ليس وحده في الوجود، وليس حرا ولكنه يعيش ويريد ويكافح داخل إطار الإرادة الإلاهية…. هذه الإرادة التي تتجلى للإنسان أحيانا في صور غير منظورة من عوائق وقيود على الإنسان أن يكافح لاجتيازها والتغلب عليها…. كما أن مصير الإنسان مرتبط بأرضه تمام الارتباط، فالقوة الأخرى الخفية التي تسمى المكان المكان المادي أو المعنوي لها قبضتها القوية على كيان الإنسان وهذا محور مسرحية شهرزاد… لقد أراد الإنسان في هذه القصة أن يتخلص من الأرض ليبلغ السماء فظل معلقا بين الأرض والسماء”.
ب: شرف الإنسان في الكون: ← هزيمة شهريار في خاتمة المسرحية اختيار مقصود من توفيق الحكيم وفاءا منه لرؤيته الشرقية الإيمانية التي لا ترى الإنسان إلاها في الكون ولا وحيدا في العالم ولا هو إله الكون ولكن يبقى شرفه في المحاولة والكفاح: قال الحكيم “وهكذا كان الإنسان يجاهد دائما ضدّ العوائق الخفية التي يشعر بتأثيرها في حريته وإرادته ومصيره…. وهو جهاد لا من نوع هدام كجهاد الإنسان المتأله ضد نفسه بل جهاد بناء…. ومهما يكن من عجز الإنسان وإخفاقه أمام مصيره فإن العبرة هي بجهاده… جهاده المنتج الشريف… وليس المهم للإنسان أن ينجح بل المهم أن يكدح وليس الشرف للإنسان في أن يقول إني حر بل في أن يقول إني سجين ولكني أجاهد للخلاص….”
ج: إشكالية التعادلية: المأسوية التي انتهت إليها شخصيات مسرحية “شهرزاد” وخاصة شهريار والوزير قمر والعبد وليدة اختلال التعادل في تركيبها الزوجي: – الملك شهريار أو مأساة اختلال توازن بين العقل والقلب والروح والجسد: ← شهریار عقل مفصول عن القلب، وعقل منبت عن الجسد، وعقل منسلخ عن المكان ← شهريار يجسم مأساة العقل الميتافيزيقي: قال جان طنوسي “يبلغ اغتراب شهریار ذروته عندما يلغي الطبيعة ليحلق فوقها في تهويمات تجريدية… ومن هنا مرضه الذي تشخصه شهرزاد بأنه ميل طفولي يفتقر إلى الشعور الإنساني الحقيقي”لا تنفع الصغير أسفاره ما دام لا قلب له””. – الوزير قمر أو مأساة اختلال توازن بين الحس والقلب: إذا كان شهريار يفصل بين العقل والقلب والطبيعة فإن الوزير قمر يفصل بين الحب من جهة والجسد من جهة أخرى ← الوزير قمر يترجم مأساة القلب الميتافيزيقي← قال جان طنوسي “قمر يعرف شبح الحب لا الحب نفسه…. ذلك أن تفكك الطاقات الإنسانية يقود قمر إلى إنكار حقيقة شهرزاد الحسية فهي في نظره تتعالى على المادة أو الجنس…. (لذلك) يموت منتحرا بالسيف لأنه رفض تصديق هذا الجانب المادي في الطبيعة الإنسانية……. 1 – – العبد أو مأساة اختلال التوازن بين الجسد والقلب: إذا ترجم شهريار مأساة العقل الميتافيزيقي، وإذا صور الوزير قمر مأساة القلب الميتافيزيقي فإنّ العبد هو رمز لمأساة الجسد الميتافيزيقي← قال أحد النقاد “هكذا فإن العبد يطلّ على الوجود من كوة الشهوة، ليصبح عنده آداة للمعرفة وبذلك يغيب الإنسان الكلي، كما غاب من قبل مع شهريار الذي أطل على الوجود من زاوية العقل المجرد ومع قمر الذي نظر إلى الوجود من منظار العاطفة العذرية… اختلال التوازن في التركيب التعادلي يولد ضرورة النهاية القائمة والخاتمة الكارثية والمأساة > مسرحية “شهرزاد” للحكيم من أدب الفواجع.
د: إشكالية المعرفة: حاول الحكيم من خلال مسيرة بطله شهريار أساسا أن يجيب عن سؤال: هل الإنسان قادر أن ينال المعرفة المطلقة ويتجاوز بذلك حدود رتبته البشرية؟؟ ← إفشال الحكيم كل تجارب البحث عن المعرفة في رحلة شهريار (السحر، القتل للمعرفة، الزهد في الجسد، الرحيل….) تأكيد على أن المعرفة الإنسانية معرفة محدودة ونسبية ولا يمكن أن ترقى إلى مستوى المعرفة المطلقة التي تنزل الإنسان إلاها للكون…. ← اعتبرت شهرزاد شهریار “أنه ذو رأس مريض” لأنه يطلب المعرفة مفصولة عن الشعور والحس حيث قالت: “كل البلاء يا شهريار أنك ملك تعس المطلقة فقد آدميته وفقد قلبه…”
نخلص بعد تحليل المظاهر التي تؤكد تحرر مسرحية شهرزاد من قوانين المسرح الأرسطيالاستنتاجات التأليفية التالية:
1: تعامل الحكيم مع التراث المسرحي الإغريقي وفق منطق الإضافة والابتكار: تحرر الحكيم من قيود المسرح الأرسطي وخاصة نظام الوحدات الثلاث يؤكد أنه لا ينشد كتابة مسرح على أسس إغريقية صرفة وإنما يروم أن يؤسس مسرحا عربيا قد يستفيد من مكتسبات الدراما الإنسانية بالمحاكاة وقد يضيف إليها وقد يخرقها ليؤسس نهجه الخاص في الإبداع الدرامي….
2: نزوع الحكيم إلى تجذير مسرحية “شهرزاد” في أفق القضايا الإنسانية الخالدة والجادة: فراغ الأدب العربي من الفن المسرحي الذي يعالج القضايا الإنسانية الخالدة والأبدية هو الذي حفز الحكيم إلى إقتحام مغامرة الكتابة في المسرح الذهني وهو ما أكده بقوله في مقدمة مسرحيته بغماليون “إني اليوم أقيم مسرحي داخل الذهن وأجعل الممثلين أفكارا تتحرك في المطلق من المعاني مرتدية أثواب الرموز”…..
3: التلازم الواضح بين الشكل والمضمون والرؤى الفكرية لتوفيق الحكيم: اختيار الحكيم للشكل الفني من جهة وللمضامين من جهة أخرى ليس اختيارا عفويا مغسولا من المقاصد وإنما هاجس توفيق الحكيم بالشكل والمضمون في مسرحيته الذهنية “شهرزاد” بلورة رؤيته الشرقية الإيمانية للإنسان ومنزلته في الكون وحدود قدرته على المعرفة وشرفه بجهاده رغم المصير المأسوي الذي يتهدده ← هناك تلازم عضوي بين الإبداع المسرحي للحكيم ورؤاه الفكرية والفلسفية ← لا يمكن أن نفهم مسرحية شهرزاد على جسر مقولة موت المؤلف: القارئ يحتاج أن يتبين رؤى الحكيم حتى يستطيع تمثل مقاصده في مسرحية “شهرزاد” الذهنية وهو ما أكده الحكيم نفسه بقوله “إن الأسطورة لذاتها لم تكن هي المقصودة… فهذه القصص (شهرزاد، أهل الكهف، بغماليون، سليمان الحكيم، الملك أوديب…) لم تكتب لإظهار جمال الأسطورة…. إنما كانت هذه الأساطير والقصص وسيلة لهدف آخر لا غاية في ذاتها…. بل وضعت كلها لخدمة قضية خاصة بالإنسان ومصيره….”.