بنية القصيدة في شعر السيّاب:
نستهلّ البحث في بنية القصيدة عند السيّاب ضمن ديوانه أنشودة المطر خصوصا وفي مجمل القصائد المدرجة من هذا الدّيوان بالكتاب المدرسيّ بتحديد مظاهر هذه البنية الّتي مال إليها الشّاعر في تحديثه لتجربته الشّعريّة.وقد قسّمنا هذه الأشكال المختلفة تقسيما زمنيّا مرتبطا بمدى الانشداد إلى سنّة نظم الشّعر عند العرب فارتأينا أن نجعلها بنى حديثة وأخرى هي إلى القدم أنسب واكتشفنا بين ذلك نمطا ثالثا يراوح بين النّمطين السّابقين فيأخذ من القديم والحديث ويمزجهما مزج تكامل.
**البنى التّقليديّة: بنية القصيدة في شعر السيّاب
ترتبط حركة الشّعر العربيّ في مختلف مراحلها ارتباط التّجربة بالنّموذج إذ لمّا قصّد امرئ القيس القصيد جعل لمراحل بنيته أقسامه المنطقيّة المرتبطة ببيئة البداوة.ولمّا كان الشّعر العربيّ أكثر التصاقا بهذه البيئة رغم ما عرفته الحواضر من انتشار له أدرك درجة ابتداع الموشّح الأندلسيّ،فقد قامت حركة البعث الشّعريّ مع الباروديّ وأحمد شوقي وغيرهما بإحياء هذا النّموذج ومواءمته مع القضايا المستحدثة والتّحوّلات الاجتماعيّة المتسارعة في البلاد العربيّة.وإذا كان الشّاعر قد تخلّص إلى حدّ بعيد من سلطة البلاط عليه وصار ملتصقا بقضايا الجماهير في المدرسة الرّومانسيّة مع أمثال أبي القاسم لشّابي وإيليا أبو ماضي وعلي محمود طه،فإنّه تخلّصه من تأثير النّموذج الفنيّ التّقليديّ لم يكن تامّا لذلك كان السيّاب الشّاعر الرّومانسيّ منشدّا على لوازم عمود الشّعر العربيّ من وزن وقافية ونظم للبيت بين مصراعيه وتمازج للأغراض وتراتب لها يجعل الغزل متقدّما والرّحلة متوسّطة والغرض مقصدا.وقد يكون التّفجّع استهلالا والتّأبين غرضا كما في الرّثاء ولعلّ قصيدة “من رؤيا فوكاي خير مثال فقد استهلّها بأصوات النّدبة والعواء”هياياي هاي هاي..”وجانسها بشنغاي واستلهم أسطورة مزج الدّم والرّصاص ليبني مشهدا مروّعا يجعل فوكاي يجنّ ثمّ طفق يرثي كنوز البشريّة في سلامها يدمّرها الحرب وتصيبها القنابل الذريّة.ومن الواضح أن القصائد المدرجة بالكتاب المدرسيّ قد تحاشت هذه البنية وربّما يعود ذلك على غرض تعليميّ باعتبار التّركيز على مظاهر التّجديد في قصائد السيّاب هدفا رئيسيّا في البرامج الرّسميّة.
**البنى الحديثة:
بات من المعلوم لدى الدّارسين أنّ السيّاب شاعر الرّمز والأسطورة التّمّوزية قد استهلّ تجربته رومانسيّا يتمرّد على القوالب الجاهزة والأنماط الجامدة ويشرّع للتمرّد والثّورة ويتعلّق بقيم الجمال والخلق وذلك ما سيسعى إلى تجسيده في كتابته الشّعريّة من خلال اختياره للأشكال التّعبيريّة المناسبة.ويظهر الاعتناء بالبنية الشّعرية أجلى مظهر لهذا التّحديث فقد ارتبطت القصيدة لديه بأحوال النّفس من جهة أولى واستفادت من بنية الأسطورة من جهة ثانية وحاكت البنية التّراجيديّة للنّصّ المسرحيّ.
ففي المجال الأوّل تظهر قصيدة”تمّوز جيكور”قصيدة تعتمد روابط ذهنيّة تشقّها ثنائيّة الحلم والواقع ذاك أنّ التّرقيم المعتمد من1إلى3 يبديها ثلاثة أحوال ذهنيّة هي الواقع بقساوته وجموده وانهياراته.يقول الشّاعر:
ناب الخنزير يشقّ يدي
ويغوص لظاه إلى كبدي
ودمي يتدفّق ينساب
لم يغد شقائق أو قمحا
لكن ملحا
ثمّ ينشأ في أعماق النّفس ذاك الحلم اللّذيذ وتتدفّق تلك الإرادة الفيّاضة والرّغبة الجامحة في تجاوز الواقع.يقول السيّاب:
جيكور ستولد جيكور
النّور سيورق والنّور
جيكور ستولد من جرحي
من غصّة موتي من ناري
لكنّ مثل هذا الواقع سرعان ما يكون غالبا سيما وقوّة الزّمن ذات فعل خارق ليقول الشّاعر يائسا:
هيهات أتولد جيكور
من حقد الخنزير المتدثّر باللّيل
والقبلة برعمة القتل
والغيمة رمل منثور
يا جيكور
بنية القصيدة في شعر السيّاب
أمّا في المجال الثّاني فإنّ قصيدة”غارسيا لوركا تترابط بروابط منطقيّة قائمة على التّتابع الأفقيّ لنظام صورها فالمصوّر واحد هو شخصيّة الشّاعر لكنّ إيحاءاتها وأبعادها تتدافع منطلقة من القلب”في قلبه تنّور”إلى المقلة”مقلتاه تنسجان من لظى شراع”إلى الشّراع”فشراعه النّديّ كالقمر” وبذلك تتدافع الصّور متوالدة في تعاقبها ولا يربطها غير الخيط النّورانيّ منبعثا من القلب جاذبا الشّراع ودافعا له لينفتح على العالم ويبني أسطورة الإنسان المثال صورة أخرى للمسيح في أشعار السيّاب.
ويظهر الصّنف الثّالث من تحديث السيّاب لبنى القصائد أكثر دقّة وتماسكا ذاك التّحديث الذي استوحى البنية الدّراميّة.لقد نقل السيّاب في قصائده أطوار صراع بين طرفين فاعلين في الكون،الخير والشّرّ في المطلق والمستبدّين والمقهورين عامّة.وذهب في ترتيب مراحل القصّة ترتيبا مسرحيّا في الغالب يستوحيه من نموّ الفعل الدرامي بنوعيه التراجيديّ كما في قصيدة “المومس العمياء” والملحميّ كما في قصيدة “الأسلحة والأطفال”.وتبدو قصيدة”قافلة الضّياع”المدرجة ضمن قصائد الكتاب المدرسيّ خاضعة بدورها إلى هذا النّموّ الدّراميّ إذ تجمع بين أربعة مشاهد ركحيّة مشهد النّزوح وبه يستهل العرض:
“أرأيت قافلة الضّياع
أما رأيت النّازحين”
ويتلوه مشهد التّخريب يقدم عليه الغزاة الصّهاينة ويظهره قوله:
النّار تتبعنا كأنّ مدى اللّصوص وكلّ قطّاع الطّريق
يلهثن فيها بالوباء كأنّ ألسنة الكلاب
تلزّ منها كالمبارد وهي تحفر في جدار النّور باب
ويظهر بعدها مشهد المخاض في بداية تململ لحياة جديدة هي استبشار بمقاومة في قوله:
من يدفن الموتى
ليولد،تحت صخرة كلّ شاهدة وليد
من يدفن الموتى لئلاّ يزحموا باب الحياة
على أكفّ القابلات
وتنتهي القصيدة عند مشهد المأساة فيها وقد انحدرت أحداثها نحو انتكاسة البعث وانسداد الآفاق في قوله:
اللّيل أجهض:ناره الحمّى وديمته انتحاب الضّائعين
اللّيل أجهض:ليس فيه سوى مجوس اللاّجئين
لقد جعل السيّاب بنية قصيدة مائلة على التّحديث وأقام من ذلك ثلاثة نماذج بارزة لا تنفي غيرها من المحاولات ويمكن إجمالها في البنية النّفسيّة والبنية الدراميّة والبنية المنطقيّة القائمة على إعادة تنظيم المشاهد في القصيدة الحرّة بشكل توالديّ بربط مفاصلها.
**تمازج البنيتين: بنية القصيدة في شعر السيّاب
لكنّ التّجديد في البنية لا يمنع شاعرا مبدعا مثل السيّاب من مزاوجة البنيتين والاستفادة منهما في كتابة بعض قصائده وقد وقفنا في ما هو مثبت من قصائده داخل الكتاب المدرسيّ على ثلاث قصائد تستفيد من البنى الحديثة والبنية التّقليديّة وهي على التّوالي:قصيدة”غريب على الخليج”وقصيدة”سربروس في بابل”وقصيدة”أنشودة المطر”.
فقصيدته”غريب على الخليج”تعرف بنية دائريّة تبدأ بمعايشة الشّاعر لحالة الغربة:
وعلى الرّمال على الخليج
جلس الغريب يسرّح البصر المحيّر في الخليج
ثمّ تتواصل باستذكار الماضي الطّفوليّ المؤنس في قوله:
بالأمس حين مررت بالمقهى سمعتك يا عراق
وكنت دورة أسطوانة
هي دورة الأفلاك من عمري تكوّر لي زمانه
في لحظتين من الزّمان وإن تكن فقدت كيانه
وتنفتح القصيدة على استشراف المستقبل كما في قوله:
ليت السّفائن لا تقاضي راكبيها عن إجار
أوليت أنّ الأرض كالأفق العريض بلا بحار
ولكنّها تعود في النّهاية إلى معايشة حال الانطلاق حال الغربة والفقر والحاجة فيقول:
هيهات لن أعود على العراق
وهل يعود من كانت تعوزه النّقود
لتبكينّ على العراق
فما لديك سوى الدّموع
وسوى انتظارك للرّياح وللقلوع
وهذه البنية الدّائريّة تبدو مستفيدة من قصائد الشّكوى التّي تستهلّ بتضخيمها وتتوسّط بتعليلها لتنتهي ببيان أثرها ورجاء الخلاص منها لكنّ الشاعر لا يتوجّه إلى مخلّص بقدرما ينغلق على ذاته رومانسيّا يعيش آلامه ويعايش في ذلك آلام أهل وطنه.
وتبدو قصيدة”سربروس في بابل”قصيدة أخرى تستفيد من البنيتين القديمة والحديثة فهي قصيدة مشهديّة ميّالة إلى البنية الدّراميّة والمواجهة فيها بين سربروس الفاعل على مسرح الأحداث وعشتار واضحة فعبثه بالإله الدّفين يجعل من عشتار تقبل وتسعى إلى لملمة الأشلاء ليتحقّق البعث.لكنّ هذه البنية التراجيديّة الثّلاثيّة لا تبدو بعيدة عن بنية قصائد الرّثاء وما تستهلّ به من تفجّع يجسّده عواء سربروس:
ليعو سربروس في الدّروب
في بابل القديمة المهدّمة
وتتوسّط بالتّأبين استحضارا لخصال الإله الدّفين في قوله:
آه لو يفيق
إلهنا الفتيّ،لو يبرعم الحقول
لو ينشر البيادر النّضار في السّهول
وتنتهي بما يشبه التّعزية للنّفس بأمل الخلاص وتحقّق البعث الفعليّ في قوله:
سينبت الإله فالشّرائح الموزّعة
تجمّعت تململت سيولد الضّياء
من رحم ينزّ بالدّماء
وفي مجال آخر تبدو قصيدة الأنشودة مثالا آخر على تمازج البنيتين فهذه القصيدة تستهلّ بما يشبه النّسيب في القصيدة العربيّة القديمة
والشّاعر يتغزّل بأنثى في ظاهر الخطاب عند قوله:
عيناك غابتا نخيل ساعة السّحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
وهو يحقّق ما يشبه الغرض منذ ذكره للعراق ومعاناة شعبه ليلتزم بذلك المضمون عبر كامل وحداته منتهيا منه إلى قفل استبشاريّ بتجاوز العراقيين لوضعهم الرّاهن تحت ظلّ الاستعمار والانتهازيين فيقول:
سيعشب العراق بالمطر
ويهطل المطر.
لكنّ هذه البنية المنشدّة إلى التّقليد لا تنفي انتظامها وفق تتابع مشهديّ يحاكي مراحل الحياة ويتابع أسطورة البعث التّمّوزيّة فيستوحي بنيتها في إقامة معالم القصيدة إذ تستهل بمشهد المخاض لتتلى بمشهد الاستفاقة الحالمة للطّفل في قوله:
كأنّ طفلا بات يهذي قبل أن ينام…
وتتلو هذه الاستفاقة استفاقة الكهل الواعية بضروب المعاناة الاجتماعيّة لا الفرديّة المحدودة في قوله:
أكاد أسمع العراق يذخر الرّعود
ويخزن البروق في السّهول والجبال.ومثل هذه البنية تعرف تصعيدا إحيائيّا مستفيدا من أسطورة البعث التّمّوزيّة دون أن تجاوز الهيكل الثلاثيّ القديم للقصيدة العربيّة