الإضحاك في رحلة الغفران تقليد أدبي - درس

الإضحاك في رحلة الغفران تقليد أدبي

يبدو الإضحاك في رحلة الغفران جليّا وميسما مميّزا وهو بذلك لانخراط في سنّة أدبية فهو تقليد أدبي

إنّ اختيار الهزل والإضحاك فنا في الكتابة وتوسّل الإضحاك نهجا في الإبداع ليسا بدعة علائيّة إو مخالفة لصناعة النّثر أو خروجا عن السنّة الأدبيّة الشّائعة، وإنّما المعرّي في اختياره ذلك يواصل تقليدا أدبيّا معرةوفا ويتأسّى طريقة في الكتابة مألوفة. فالسّخرية،فنّا في الإبداع، عرف درج عليه الأدباء قبله. ذلك أنّ من تقاليد الأدب والتّراسل بين الأدباء التّفكّه والتّندّر ومزج الجدّ باللهزل والإمتاع بالإفادة.فـ الإضحاك في رحلة الغفران تقليد أدبي

وعلى هذا الأساس، فإنّ انبثاق الإضحاك في رسالة الغفران ليس في وجه من وجوهه إلاّ احتذاء علائيّا لسنّة أدبيّة، فتكون السّخرية بمعزل عن مقاصدها اختيارا أدبيّا، ولا عجب لأنّ مقوّمات الأدب عند العرب الإفادة والإمتاع، الإفهام والمؤانسة، لا سيما في زمن تألّق ومال إلى حياة المتعة واللّيونة. لأجل ذلك اتّخذ كثير من الأدباء قبل المعرّي وبعده السّخرية والإضحاك نهجين في الكتابة، ومزجوا الهزل بالجدّ مزجا متآلفا متناغما مثلما توسّلوا التفكّه والتّندر سبيلين إلى النّقد والفضح وخاصّة في زمن احترف تهميش المثقّفين ووأد الكلمة الجريئة على نحو يكون فيه مزج الهزل بالجدّ احتجاجا مقموعا وخفيا على ثقافة ضدّ الخطاب السّافر واستراتيجيّة احتيال وخداع للرقابة. أ لم يُنطق ابن المقفّع الحيوان في كليلة ودمنة فكانت صورة الحيوانات لهوا وما نطقت به حكما وأدبا؟ فالصّورة الحيوانيّة الهازلة في كليلة ودمنة قناع وغطاء للفكرة الإنسانيّة الجادّة وانبناء هذا الأثر على ثنائيّة الظّاهر الضّاحك والباطن الجادّ هو الّذي حفّز ابن المقفّع إلى تنبيه القارئ في باب عرض الكتاب إلى ماهيّة القراءة وشروطها، فالانتهاء إلى مقاصد الأثر الخفيّة يكون بتجاوز الطّورة الحيوانية الظّاهرة إلى الفكرة الإنسانيّة الباطنة وفي هذا السّياق يقول ابن المقفّع” فمن قرأ هذا الكتاب فليعرف الوجه الّذي وضع عليه ولا يكن همّه بلوغ آخره ليعرف إلى أيّ غاية يجري مؤلّفه وأيّ شيء يخشى منه

وعلى هذا الأساس ليست السّخريّة باعتبارها سمة أدبيّة استراتيجيّة احتيال نتيجة القمع السّياسيالمسلّط على المثقّفين والرّقابة الدّينيّة عليهم؟ ألم يقل الأستاذ توفيق بكّار عن المثل الحيواني في كليلة ودمنة” إنّها بلاغة الاستعارة لخطورة المعنة وسذاجة النّادرة الحيوانيّة لعمق الفكرة الإنسانيّة. فهو شكل لفلسفة ورمز لحكمة.”

وإلى ذلك، إنّ ارتقاء الإضحاك إلى مستوى السنّة الأدبيّة والتّقليد الفنّي يتبدّى أيضا مع الجاحظ ففي مقدّمة كتابه البخلاء حدّد أهمّية الإضحاك لا من حيث هو فنّ في الكتابة فقط بل أيضا من حيث هو حاجة إنسانيّة ضروريّة واحتجّ لذلك بالقرآن والسنّة وعادات العرب وأمثالها. حيث يقول مثلا “وكيف لا يكون موقعه من سرور النّفس عظيما ومن مصلحة الطّباع كبيرا، وهو شيء في أصل الطّباع وفي أساس التركيب. لأنّ الضّحك أوّل خير يظهر من الصّبيّ وبه تطيب نفسه وعليه ينبت شحمه ويكثر دمه ولفضل خصال الضّحك عند العرب تسمّي أولادها بالضّحاك وبسّام وبطلق وبطليق” بل إنّ الإضحاك نهجا في الإبداع والكتابة لا يصدق فقط على المصنّفات الأدبيّة والرّسائل الأدبيّة والرّسائل الإخوانيّة وإنّا يصدق أيضا على المؤلّفات ذات الصّبغة العلميّة والفلسفيّة. فكتاب الحيوان مثلا رغم طبيعته العلميّة وبعده الفلسفيّ ونزعته العقائديّة فإنّ الجاحظ فيه مزج بين الإمتاع والإفادة وبين الهزل والجدّ حيث قال محدّدا طريقته في الكتابة ” على أنّي قد عزمت – والله الموفّق – أنّي أوشّح هذا الكتاب وأفصّل أبوابه بنوادر من ضروب الشّعر وضروب الأحاديث ليخرج قارئ هذا الكتاب من باب إلى باب ومن شكل إلى شكل فإنّي رأيت الأسماع تملّ الأصوات المطربة والأغاني الحسنة والأوتار الفصيحة إذا طال عليها ذلك، وما ذلك إلاّ في طرق الرّاحة الّتي إذا طالت أورثت الغفلة”

وجملة القول إنّ السّخرية نهجا في الكتابة سنّة أدبيّة شائعة احتذاها المعرّي في رسالته ولم تكن بدعة في التّأليف أو استحداثا في صناعة النّثر، ولكنّها سنّة أدبيّة تكشف في العمق عن حجم ضغوطات السّلطان السّياسيّ وحتّى العقائدي على المثقّفين والمفكّرين مثلما تعبّر في الآن نفسه عن ذوق جمهور مال إلى التّأنّق وحياة المتعة واللّيونة

مقالات ذات صلة قد تفيدك:

أضف تعليق

لا يمكن نسخ هذا المحتوي

شكرا