مظاهر تأثير الأسطورة في بنية القصيدة في شعر السياب
من المعلوم أنّ الأسطورة في بنيتها نصّ سرديّ عجيب فيه من الخوارق والتّحوّلات ما يشدّ السّامع ولكن فيه من المنطق داخل العجائبيّة ما يقوم بتفسير الظّواهر تفسيرا عليّا وهي بذلك رؤية للعالم صيغت صياغة فنيّة كانت إلى السّرديّة أميل وإن ورد نصّها شعريّا غلب عليه النّفس الملحميّ لما في قصص الآلهة والأبطال من انتصارات تتوّج فعلهم الخارق.لكنّ ما ينقله السيّاب ليس سوى مآسي ووجوها من المعاناة الإنسانيّة تتعدّد مجالاتها والمصاب واحد،هو الإنسان العامل يكدّ حتّى يفنى ولا يتذوّق طعم حرّيته.وتتنوّع أسباب هذه المعاناة والدّافع واحد هو إنسان نزع من قلبه الرّحمة فصار ممثّلا ل”آلهة الحديد والنّضار”على حدّ قوله في قصيدة”من رؤيا فوكاي”وبذلك يبرز طرفان للصّراع،طرف عامل مسحوق ومهيمن يسحقه ويمتصّ جهده ليزداد ثراء.لا شكّ أنّ توزيع أطراف الصّراع بهذا الشّكل متولّد عن خلفيّة أيديولوجية اشتراكيّة مال إليها السيّاب في مرحلة من مراحل تجربته الشّعريّة لكنّه مع ذلك توزيع يبدي قوّتين بشريتين إذ لم يعد الصّراع بين الإنسان والآلهة واتّخذت بذلك قصائده ذاك النّزوع التراجيديّ في بنائها مستفيدة من المآسي القديمة.لكنّها تراجيديا أفقيّة طرفاها في عالم الأرض ومسرحها الواقع الاجتماعيّ والإنسانيّ،وأبطالها في المعاناة أبطال في المواجهة لذلك يصرّون على البعث ويستبسلون في تحقيقه.ولعلّ ذلك ما يمكن أن يفسّر لنا نهايات قصائد السيّاب وما يطغى على قصّة الصّراع فيها من روح تفاؤل ختم أنشودة المطر بقوله”ويهطل المطر” وختم قصيدة النّهر والموت بقوله”وأبعث الحياة إنّ موتي انتصار”وختم قصيدة سربروس في بابل بقوله
“سينبت الإله فالشّرائح الموزّعة
تجمّعت تململت،سيولد الضّياء
من رحم ينزّ بالدّماء”
وبنفس روح التّفاؤل ختم قصيدة”قافلة الضّياع” عند قوله:
واختصّ رعد في مقابر صمتها يعد القفار
قصائد السيّاب إذ تنتهي في الغالب متفائلة بغد باسم “واهب الحياة،واهب المطر”لكنّها تنطلق من مشهد مواجهة حالمة بين مخاض وولادة وما في تلك اللّحظات من عناء وآلام فتهيمن العتمة والشدّة وتنتفي ملامح الإشراق قبل أن تحتدم المواجهة فيغطّي الدّخان الإطار وتلتهم النّار المشهد ويزحف الموت على مظاهر الحياة مهدّما مخرّبا.لكنّ بذرة الحياة سرعان ما تُختزن في أعماق الأرض وتعود إلى النّبات بعد الكمون.
إنّها بنية حدثيّة محاكية بشكل تامّ لأطوار البعث في الأسطورة التّمّوزيّة،اندثار ربيع الحياة يعقبه جمود الشّتاء ومن رحم ذلك الجمود تنمو الحياة وتقاوم ببذرتها الباقية فتعود قويّة يافعة يدفعها الأمل.وهكذا حوّلت هذه الأساطير مختلف قصائد السيّاب إلى بنية حدثيّة دراميّة تجسّدها المشاهد ثلاثيّة في البداية والوسط والنّهاية،بداية قاتمة في مشاهد مؤلمة ووسط مشتعل في مشاهد المواجهة ونهاية مشرقة في ابتسامة الأمل.
هكذا تبدو الأساطير مؤثّرة على بنية القصيدة الحديثة عند السيّاب موجّهة لها وجهة جديدة تختلف عن مألوف بُنى القصائد القديمة لما استلهمته من روح سرديّة ومن خصائص عجائبيّة أقامت منطق أحداثها وترابط أجزائها على غير المألوف في الذّوق العربيّ.فالأسطورة عصب رئيسيّ يشدّ شتات القصيدة في العمليّة الإبداعيّة لدى السيّاب ويضمن تماسكها وهي مع ذلك مولّد رئيسيّ للمعانيّ.إنّها إذن عماد تجربة تحديث في كتابة الشّعر ولذلك كلّه كان تجلّيها في توجيه بنية القصيدة أوضح مظهر ينبّه القارئ إلى مركزيتها في التّعامل مع القصيدة العربيّة الحديثة.