خصائص الصورة في الشعر الحديث
خصائص الصورة في الشعر الحديث:
من المفيد أن يكون القارئ عارفا بخصائص الصّورة في الشّعر الحديث وأهمّيتها حيث أصبحت”الكتابة بالصّور هي القانون المحوري الّذي تبنى عليه القصيدة الحديثة”[1]وأنّ الكلمة على أهمّيتها أخذت “تتراجع يوما بعد يوم لا على المستوى الإبداعي فحسب بل تتراجع كأداة أيضا تاركة مكانها لأدوات أخرى أهمّها الصورة“[2].سيما والعصر عصر المرئيات وعصر الصّورة الّتي تحوّلت فنّا عامّا سالبا للأذواق وموجّها للإبداع في كلّ مجال فنّيّ.
ونتيجة لذلك أصبحت القصيدة صورا متراكبة متعانقة وباتت الصورة”ميزة رئيسة يُعتمد عليها في تفريق ما هو شعر وما هو ليس شعرا [3]“
وإذا كانت الصّورة في الشّعر القديم تنحصر غالبا في التّشبيه والاستعارة المحاصرتين ببعض الشروط الّتي تخدم قضية الإبانة عن المعنى والإفهام فإنّ مجالها قد اتّسع في الشّعر الحديث ليشمل الجمع بين المتنافرات والرّمز وهي سمة طبعت الكثير من القصائد الحديثة ولا سيما قصائد بدر شاكر السياب الّذي وظّف كثيرا من الرموز الأسطورية مثل عشتار وتموز في صياغة صوره وقد أضفى توظيف الرموز الأسطورية فيصياغة الصّور الشّعرية درجة من الغموض على هذه الصور تقتضي آليات جديدة في تحليلها ومن أهمّها التّخييل والبحث عن مواطن المفارقة والتّعرّف على طرق توظيف التّراث وأشكاله من تحوير وتغيير واستلهام وتضمين واقتباس ومحاكاة.وهي جملة من الآليات الحديثة المرتبطة رأسا بنظريّة التّناص في النّقد الأدبيّ الحديث والمقيمة لشروط الإبداع عامّة.
أمّا بالنسبة إلى مراجع الصّورة في الشّعر الحديث فهي متعددة بعضها يتصل بالواقع المعيش وبعضها مرتبط بالأسطورة أو الدّين أوالطّبيعة بعد أن كان مرجعها الأساسي البيئة الّتي يعيش في إطارها الشّاعر العربي القديم
ولنا أن نعرف بذلك أنّ ثلاثة أنواع من الصور في الشعر الحديث قد تميّزت بمميّزاتها الفنيّة وهي:
+الصور البسيطة
+الصور المركبة
+الصور الكلية
ويحسن بنا ألاّ نتعامل تعاملا واحدا مع كل هذه الأنواع.فالصور البسيطة تتجسد أساسا في التشبيهات البسيطة وتكون واضحة المعنى حيث يجمع الشاعر بين شيئين يشتركان في صفة واحدة أو أكثر ويكون وجه الشبه أوضح في المشبه به منه في المشبه مثل قول السيّاب في قصيدة غارسيا لوركا
شراعه القوي كالحجر
شراعه السريع مثل لمحة البصر
شراعه الأخضر كالربيع
فشبه الشاعر الشراع مرة بالحجر ووجه الشبه القوة والصلابة ومرّة بلمحة البصر ووجه الشبه السرعة ومرة بالرّبيع ووجه الشبه الخضرة.
أو قول نزار قباني في قصيدته كلمات
وانا كالطفلة في يده
كالريشة تحملها النسمات
فشبه المرأة بالطفلة مرّة ووجه الشبه الصغر وشبهها بالريشة مرّة أخرى ووجه الشبه الخفّة.
وقد تُجسد الصّورة البسيطة في بعض الاستعارات التي تتضمن قدرا كبيرا من المناسبة بين المستعار منه والمستعار له كقول بدر شاكر السياب في قصيدته غريب على الخليج
الريح تلهث بالهجيرة كالجثام على الأصيل
أو قول نزار قباني في قصيدة الحزن
أدخلني حبك سيدتي مدن الأحزان
فهذه الصورة لا تثير مشاكل في القراءة لأنّها تجري حسب مقاييس الجمال في الصورة الشعرية القديمة.أمّا الصّورة المركبة والصور الكليّة فهي في حاجة إلى قراءة خاصة أكثر عمقا.
“فالصورة المركبة هي “مجموعة من الصور البسيطة الّتي تتحد وتتآزر لتكون صورة مركبة“[4]وهذه الصورة تقوم بتوليد دلالي لا تقدر الصورة البسيطة على توليده بمفردها
ويمكن أن نأخذ مثالا على ذلك قصيدة “تموز جيكور”لبدر شاكر السياب
تمّوز جيكور
نَابُ اٌلْخِنْزِيرِ يَشُقُّ يَدِي
ويغوص لظاه إلى كبدي
ودمي يتدفّق ينساب
لم يغد شقائق أو قمحا
لكن ملحا
عشتار وتحفق اثواب
وترفّ حيالى أعشاب
من نعل يخفق كالبرق
كالبرق الخلّب ينساب
لو يومض في عرقي
نور فيضيء لي الدّنيا
لو انهض آه لو أحيا
وتقبّل ثغري عشتار
***
جيكور…ستولد جيكور
النّور سيورق والنّور
جيكور ستولد من جرحي
من غصّة موتي من ناري
سيفيض البيدر بالقمح
والجرن سيضحك للصّبح
جيكور ستولد…لكنّي
لن أخرج فيها من سجني
من ليل الطّين الممدود
***
هيهات أتولد جيكور؟ا
إلاّ من خضّة ميلادي
لا شيء سوى العدم..العدم
تتالى الصور البسيطة إذ بدأ الشّاعر بصورة تنهض على الرمز الأسطوري “الخنـزير في أسطورة تموز”ليلبّس الشاعر إليها صورة الشقائق والقمح رمز للخصب والحياة وتليها صورة عشتار آلهة الخصب ثم صورة المدينة جيكور الّتي تولد من جديد كرمز لأمل الشّاعر الّذي ينتهي في آخر القصيدة يائسا ينحدر أمله به إلى الموت والفناء.
تبدو هذه الصّورة مجمّعة صورا بسيطة تساهم في نحت صورة مركّبة هي صورة الشاعر المتمزّق بين الأمل واليأس.
أمّا الصّور الكلية فتنهض على الصور البسيطة والصور المركبة معا”وبناؤها امتدادي لانّ الصور البسيطة تجتمع فتؤلّف صورا مركبة والصور المركبة تتآزر فتنشئ صورة كلية”[5]ونموذج ذلك أنشودة المطر حيث تتوالى الصور البسيطة مكونة صورا مركبة أدت في الأخير إلى تكوين صورة كلية: هي صورة العراق يعاني القهر والقحط والجدب والظلم
وإدراك التلميذ لهذا الاختلاف القائم بين الصّور يساعده على حسن مقاربتها والتعامل مع النّصّ الشّعريّ الحديث ليكون أكثر فهما لمضامينه وأكثر توسّعا في استيعاب مقاصده.ولا شكّ أنّ توفّر قدر من المعرفة بالشعر الحديث تاريخا وخصائص عامل هام ومساعد على قراءة النّصوص الشّعرية الحديثة فهذه المعرفة تمثّل الوسيلة الّتي يدخل بها التلميذ إلى النصوص فيفهمها أكثر ويستنطقها بشكل أعمق ويتفاعل معها تفاعلا مفيدا في تكوينه وتدعيم تحصيله من دراسة الأدب العربيّ.
إنّ هذا التوسّع في مسألة الصّورة كمقتضى من مقتضيات المقاربة قد أملته أهميتها في الشعر الحديث إذ لا مجال لفهم عميق لهذا الشعر وإدراك واع لخصائصه دون الإحاطة بخصائص الصّورة في الشّعر الحديث وكل مقاربة للنّصّ الشّعريّ الحديث مدعوة إلى الاهتمام بالصّورة اهتماما خاصا باعتبارها أساسا من أسس الإيقاع وممكن الدّلالة والملمح الأسلوبي الواصل بين عناصر البناء الواحد.
[1] محمّد الخبو:مدخل إلى الشّعر العربيّ الحديث.ص54
[2] محمد لطفي اليوسفي في بنية الشّعر العربيّ المعاصر.ص92
[3] عبد الحميد جيدة:الاتّجاهات الجديدة في الشّعر العربيّ المعاصر.ص365
[4] ماهر دربال:الصّورة الشّعريّة في ديوان أنشودة المطر.لبدر شاكر السيّاب ص126
[5] ماهر دربال:الصّورة الشّعريّة في ديوان أنشودة المطر لبدر شاكر السيّاب.ص134