السخرية في رحلة الغفران ضحك يمتع القارئ وتندّر يفضح السّائد
السخرية في رحلة الغفران ضحك يمتع القارئ :
رحلة الغفران فضاء يحقق للقارئ المتعة والالتذاذ بحكم ما توفر فيها من مشاهد أو أقوال أو مواقف… تثير الضحك وتولد الابتسام وأهم آليات الإضحاك:
أ: التفارق بين المكان المقدس والسلوك المدنس:
المكـان هـو الجنة وسلوك البطل والشخصيات يتميز بالغرابة والشذوذ (عربدة، مجون، خصومات لفظية ومادية، لواط، جنس، منادمات، مجالس خمرية…).
ب: اختلال التوازن بين الفعل والجزاء:
أغلب الشخصيات فازت بالجنة بحجج واهية لامعقولة (عبيد بن الأبرص ببيت شعر، الخطيئة لأجل كلمة صدق، الأعشى بقصيدة مدحية وشفاعة علي بن أبي طالب، إبن القارح بصلة التربية وآخرون بالغفران الإلاهي والوساطة…) مفارقة عجيبة بين الجزاء (التميم) والأسباب (أقوال).
ج: سخرية المشهد: قلب المواقف الجادة إلى مشاهد هزلية:
• يوم الحشر وهو يوم رهبة وخوف ينقلب فضاء للمزاحمة والتودد والتحيل والصراخ والعراك والفوضى…. رسي • انشغال بعض الشخصيات يوم الحشـر بالنقاش في مسائل أدبية وشعرية مثل النقاش الحاد مع أبي علي الفارس ، الذي اتهمه الشعراء بالتجني عليهم في تأويله…: قال ابن القارح “وكنت قد رايت في المحشر شيخا لنـا كـان يدرس النحو في الدار العاجلة يعرف بأبي علي الفارسي وقد امترس بـه قـوم يطالبونه ويقولون له: تأولت علينا وظلمتنا”.
• رسم يوم الحشر في صورة سوق يعلو فيه الضجيج والصراخ والتراحم بين الناس والتودد إلى الرسول وعلي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء التي قالت عن إبن القـارح “هذا رجـل سـأل فيـه فلان وفلان، وسمت جماعة من الأئمة الطاهرين”…
• انقلاب نقاش في الشعر بين نابغـة بنـي جعدة والأعشى إلى خصومة تطورت من العنف اللفظي بالسباب والتنابز وتبادل الاتهامات إلى العنف المادي “فيضربه بكوز من ذهب”.
* الرسم الكاريكاتوري الساخر: صـورة إيـن القـارح يعبر الصراط غير مستمسك متساقطا عن يمين وشمال أو صورته يقطـع الصراط أيضـا محمـولا على ظهر جارية زقفونة
د: مفارقة المقام والمقال:
• ابن القارح يسأل أهل النار (المقام) رغم عذابهم القاسي عن الشعر وقضايا الأدب (المقال) ←قال البطل إلى إمرئ القيس وهو في عذاب النار “يا أبا هنـد إن رواة البغداديين ينشدون في قفا نبك هذه الأبيات بزيادة الواو في أولها…”.
• توسل ابن القارح يوم الحشر (المقام) الشعر (المقال) طريقا للدخول إلى الجنة وذلك بتودده إلى رضوان وزفر وحمزة: قال حمزة عم الرسول لإبن القارح “ويحك، أفي مثل هذا الموطن تجيئني بالمديح؟؟”.
ه: مفارقة الصفة والسلوك والسن والفعل:
• مفارقة الصنفة والسلوك: اين القارح شيخ يظهـر الـورع والوقار (الصفة) ولكنه يترشف رضاب جاريتين من الحور العين أو يعربد ويقيـم مـجـالس الأنس والطرب أو يخاصم بفعل السكر أو يأمر بإقامة مجالس الأنـس أو يختلس النظـر إلى ردف جارية وهو ساجد…
• مفارقة السن والفعل: اين القارح شیخ هرم ضعيف (السن) ولكنه مـع ذلـك يهرول في الجنة هروبا من الأفعى التي دعته إلى خلوة أو يزاحـم النـاس ويضانكهم يوم الحشر حتى يصل إلى رضوان وزفر : قال البطل واصفا سلوكه يوم الحشر “ثم ضانكت الناس حتى وقفت منه بحيث يسمع ويرى فمـا حـفـل بـي ولا أظنه أبه لما أقول”.
و: سخرية اللفظ:
تحققت سخرية اللفظ من خلال: التورية: استعمال المعري ألفاظـا تثير الالتباس بحكم أنهـا تـؤدي المعنى ونقيضه مثل قوله عن رسالة ابن القارح “قد وصلت الرسالة التي بحرها بـالحكم مسجور”: لفظة مسجور ظاهريا تفيد الامتلاء وباطنيـا تفيد الفراغ ←أسلوب التورية ينقل الدلالة من المعنى الظاهري البريء إلى المعنى الباطني الساخر. –
• الإغراب اللغوي: استعمال أبي العلاء لألفاظ يثير نطقها الضحك لأجل غرابتها مثل: كفرطاب، زقفونة، جحجلول….
السخرية في رحلة الغفران تنذر يفضح السائد :
لمّا كانت السخرية اختيارا أسلوبيا مقصودا فإن المعري بالتندر حدد جملـة من المواقف من ذلك:
أ- المواقف الأدبية:
*التحقيق في بعض القضايا اللغوية والنحوية والعروضية..
* إبداء الرأي في الرواية والرواة : طرق قضية الانتحال الشعري.
* تقييم بعض الأغراض الشعرية: شعر الرجز والمدح وما يتبعه مـن تكسب ←نقد المعري لشعراء الرجز الذين حولوا الشعر إلى صنعة سهلة واتهامه لشعراء المدح الذين اتخذوا الأدب حرفة ومهنة.
• فضح واقع النقد: انقلاب العملية النقدية للشعر إلى ممارسة مجانية مؤسسة على اعتبارات ذاتية أو أخلاقية أو أحكـام انطباعية أو خصومات أفرغت النقر من دلالته وشرط الموضوعية وانعكاسات ذلك على الشعر
ب: المواقف من معتقدات الناس:
• نقد معتقد الغفران: الإيمان بمعتقد الغفران يقلب الجزاء بالنعيم أمـرا يسيرا بلوغه مما يشجع الناس على استهلاك حياتهم في اللـذة والمتعـة وارتكاب المعاصي ←دخول بعض الشخصيات إلى الجنة ببيـت شـعر أو قصيـدة مـدح أو كلمـة صـدق… موقـف مـن معتقد الغفران السائد: رحلة الغفران رسالة ضد تصورات ساندة حول الغفران.
• نقد معتقد الشفاعة: الإيمان بالشفاعة اعتراض على الحكم الإلاهـي وتدخل للإرادة البشرية في حدود الإرادة الإلاهية حتى إبطالهـا ← المشفوع لـه يـكـون أحيانا قد تقرر مصيره وهو النار تشهير المعري بالخلفيات السياسية الشيعية لمعتقد الشفاعة.
• نقد معتقد عبور الصراط: تصوير المعري مشهد عبور الصراط تصويرا کاریکاتوریا ساخرا صورة ايـن القـارح محمول على ظهر جارية زقفونة التصور المادي لعبور الصراط أفرغه من كل قداسة وجرده من كل هيبة.
• نقد تصورات الناس ليوم الحشر: توهم الناس أن يـوم الحشـر هـو اجتماع في فضاء ممتد المساحة هذا التصور قلب يـوم الحشـر إلـى يـوم أشـبـه بسـوق حيث الزحام والضوضاء والجلبة والتزاحم وانعدام النظام…
• نقد تصورات الناس للقدرة الإلاهية: توهم الناس أن الله في الآخرة إنما هو في خدمة أهل الجنة ينفذ رغباتهم ويحقق لهـم شهواتهم:أمثلة: أبـو عبيدة اشتهى طاووسا من طواويس الجنـة مصوصا فيكـون لـه ذلك في صفحـة مـن الذهب، أبو ذؤيب الهذلي يشتهي أن يحتلب ناقة فقيض له الله ناقـة يحتلبها، ايـن القارح يخطر له ذكر الفقاع فيجري له الله أنهارا من فقاع…. هذا التصور اللامعقول للقدرة الإلاهية أفقد الله كل قداسة وهيبة.
• نقد معتقد التعويض: فضح المعري توهم الناس بأن من أبتلي بعاهة أو محنة في الدنيا يعـوض بأحسن منها في الآخرة: التغيرات التي طرأت على الأعشى وزهير وحمدونـة وتوفيـق السوداء… المعـري أميـل إلـى البعـث الروحي خاصة وهو يعتبر الجسد سجنا للروح.
• نقد التصور الطبقي للجنة: تشهير المعري بتوهم الناس أن الجنة طبقات ) ودرجات على غرار الدنيا: “زهير له قصـر مـن ونيـة والحطيئـة لـه بيـت كأنه حفش أمة راعية ” ثنائية القصر والبيت تعكس التصور الطبقي للجنة.
ج: المواقف الأخلاقية: السخرية في رحلة الغفران
فضح المعري للبؤس القيمي في عصره: مجـون، عربدة، لواط، تهافت على اللذة المادية، قيـان، خلـوات جنسية، انهيار القيـم وانقلاب المثل…←مجتمع القرن الخامس للهجرة مجتمع طلق الفضيلـة وتهافت على الرذيلة، مجتمع دينه اللذة وعملته النّفاق.
د: المواقف الاجتماعية والسياسية: السخرية في رحلة الغفران
• المواقف الاجتماعية: فضح الطبقية وتدهور منزلة المـرأة والوصوليـة والوشاية والسرقة….
• المواقف السياسيّة: فضح تعصّب الشّيعة لآل البيت وتحكّم الحاشية في الحكم والظّلم السّياسي وانضراف الرّاعي عن النّظر في شؤون الرّعية…