يتردّد الإضحاك في رحلة الغفران بين ثنائيّتي الحاجة والاحتجاج الحاجة فنّية تتطلبها الكتابة الإبداعيّة في عصر المعرّي وحاجة نفسية للمرسل والمرسل إليه لكون قسم الرّحلة ينتمي إلى جنس أشمل هو الرّسالة من جهة واحتجاج على واقع يروم من خلاله النقد
اختلفت آراء النقاد وتفارقت في تحديد الجنس الأدبي لرحلة الغفران المخيّلة إذ عدّها البعض قصّة بل هي ” من أقوى التّآليف الرّوائيّة في الأدب العربيّ القديم“. بينما انتهى البعض الآخر إلى اعتبارها نصّا مسرحيّا يدفع عن الثّقافة العربيّة تهمة عدم معرفتها بالفن الدّراميّ، فينفي تهمة القصور الإبداعيّ حيث ثبت لبنت الشّاطئ ورسخ عندها أنّ ” الغفران مسرح أديب مقتدر وعالم لغوي قد اتّخذ هذه الرّحلة سبيلا إلى لقاء الشّعراء واللّغويّين والرّواة ليناقشهم في ما كان يشغله ويشغل عصره وبيئته من قضايا الشّعر واللّغة”
وإلى ذلك اختلف النقّاد أيضا وتباعدو في تحديد الغاية من الرّحلة. فهي في عرف بعض الدّارسين احتجاج على مجتمع أفلس وفضح لقيم تدهورت ومثل انقلبت، وهي عند البعض الآخر وعاء فنّي صعّد فيه المعرّي ونفّس عن حرملنه وعذابه الذّاتيين، على نحو لم تكن فيه الرّحلة ثورة مثقّف زاهد علة مجتمع اللّذة واللامعقول وإنّما هي حيّز عبّر فيه الأديب المحروم عن أشواقه المقموعة وأحلامه الموؤودة، ومن ثمّة فإنّنا لا نستطيع أن نفهم رسالة الغفران وسائر آثار أبي العلاء م لم نتحرّر من الفكرة المسيطرة الذّائعة عن انتصاره على الدّنيا وزهده النّفسيّ فيها بمجرّد أن أعلن انسحابه منها
إنّ هذين الاختلافين وغيرهما في الرحلة لم يمنعا النقّاد من الاتّفاق حول بعض هواجس المعرّي المركزيّة في الرّحلة وهي السّخرية والعبث. لأجل ذلك شدّت ظاهرة الهزل والإضحاك انتباه النقّاد واهتمامهم، ذلك أنّ رحلة ابن القارح الخياليّة والمقدّرة إلى عالمي الجنّة والنّار توقّفنا عند مشاهد أو أقوال أو مواقف تثير الضّحك وليس من قارئ إلاّ ويجد نفسه مدفوعا إليه، ملتذّا لحظة القراءة بالعبث والختال العلائيين بالبطل من جهة، متمتّعا في الآن نفسه بالمفارقات العجيبة واللامعقولة في الأحداث.
على أنّ نشأة الإضحاك في الرّحلة لم يكن في رأينا ترفا فنّيا أو اختيارا عفويّا أو بدعة علائيّة وإنّا رشحت السّخرية في الرّحلة وانبثقت لأجل اعتبارات عديدة بعضها أدبيّ وبعضها نفسيّ وبعضها الآخر موضوعيّ هادف. والنقاد اللذين انشغلوا بفنّ الإضحاك في الغفران أفاضوا جميعهم الحديث عن المقاصد النّقدية للسّخرية لأنّ الضّحكة تنفجر من عمق المأساة نفيا للمأساة وسخرية بأنفسنا حتّى نتجاوز أنفسنا” كما يقول الأستاذ بكّار، ولكنّهم اهملوا المنطلقات النّفسيّة والأدبيّة الّتي ساهمت في رأينا من جهتها في توليد الإضحاك ونشأة التّندّر، فالنقّاد رأوا في السّخريّة احتجاجا على العصر وفضحا له ولكنّهم تغافلوا عن إسهام السّنة الأدبيّة والأزمة النّفسيّة للمرسل المعرّي والمرسل إليه ابن القارح في نحت فن الإضحاك
والغاية الّتي إليها نقصد توسيع الفهم لهذه الظّاهرة الفنّية طموحا لإدراك أدبيّة الأدب.
مقالات ذات صلة قد تفيدك
- الإضحاك في رحلة الغفران نقد و احتجاج
- السخرية في رحلة الغفران إمتاع
- السخرية من ابن القارح في رحلة الغفران
- الإضحاك في رحلة الغفران حاجة نفسية
- الإضحاك في رحلة الغفران تقليد أدبي
- تجليات الخيال في رحلة الغفران
- مصادرالخيال في رحلة الغفران
- مفهوم الخيال في رحلة الغفران
- الجرأة في رحلة الغفران
- تدريب على إنتاج مقال أدبي رحلة الغفران
- إحكام البناء في رحلة الغفران
- إحكام البناء في قسم الرحلة ( الجزء الثاني)
- إحكام البناء في رحلة الغفران ( الجزء الثّالث
- السخرية في رحلة الغفران الآليات والمقاصد
- السارد في رحلة الغفران أنواعه و مواقعه
- وظائف السارد في رحلة الغفران:
- السخرية من ابن القارح
- النسيج الفني المثير:توليد الحكاية من نصوص تراثية
- المعري محاجج لواقع المجتمع: الطريقة والقضايا والغايات
- المعرّي محاجج لثقافة العصر: