دور الإيقاع والموسيقى في تشكيل بنية القصيدة عند السيّاب
يحتلّ بناء القصيدة حيّزا هامّا في دراسات نقد الشّعر لما يمثّله في النّصّ الشّعريّ من خطورة إذ به كان الحكم للقصيدة أو عليها قديما وبه تميّز الشّعر المعاصر وتفرّد وإنّ بنية القصيدة لتخضع لعوامل خارجيّة تستنجد بها لتنحت لنفسها كيانا وشكلا أو معنى وصورة ولعلّ أهمّ هذه العوامل الإيقاع بمعناه العروضيّ من بحور شعريّة وتفعيلات وقافية ورويّ وهو ما خصصنا به عبارة”الإيقاع” وسنحاول تبيّن أثر العناصر الإيقاعيّة في شعر السيّاب على بناء القصيدة الحديثة.
كنّا رأينا إذن أنّ السيّاب لم يلغ الموروث الشّعريّ إلغاءً نهائيّا في مستوى البناء ولا في مستوى الإيقاع أيضا بل عاد إليه لينهل منه حتّى يؤصّل الشّعريّة العربيّة لذلك فقد استدعى الأوزان الخليليّة واستعملها ولكن بشكل جديد وهو ما منح قصيدته بناءً خاصّا مغايرا لعمود الشّعر.فالسيّاب بهدمه لمفهوم البيت الشّعريّ القديم وتعويضه بمفهوم السّطر الشّعريّ أو الجملة الشّعريّة قد أحدث شرخا في نظام عمود الشّعر إذ لم تعد قصيدته ذات بناء محكم وتنظيم صارم بل جاءت غير متراتبة على بياض الورقة تطول فيها الأسطر وتقصر وهو ما ميّزها عن القصيدة العموديّة وجعل لها بنية على أنقاض البنية القديمة وهذا من النّاحية المظهريّة على الأقلّ ثمّ إنّنا لنلاحظ في قصيدة السيّاب هذا التّقسيم المقطعيّ فلم تعد القصيدة معه تتكوّن من أبيات متتالية بل صارت متركّبة من عدد من الأسطر تنقسم إلى مجموعات وكلّ مجموعة تحتوي عددا معيّنا من الأسطر وهذه المجموعات هي ما عبّر عنه النقّاد المحدثون بالمقاطع الشّعريّة.
هذا الأمر يتحلّى في البناء الفنيّ العامّ للقصيدة عند السيّاب أمّا بخصوص استدعائه للتّفعيلات الّتي وضعها الخليل لوزن الشّعر فإنّ السيّاب قد تصرّف فيها هي الأخرى ولم يلتزم بعدد معيّن منها في كلّ سطر كما جرت العادة في البيت الشّعريّ القديم فجاءت قصيدته في شكل مدّ وجزر يطول السّطر منها ليشمل أربع تفعيلات ويقصر ليقتصر على تفعيلة واحدة.ومن هنا تراجعت الأوزان الخليليّة لتترك المجال للّغة تعبّر وتخلق الإيقاع عبر طاقاتها المخزونة في دوالّها وكذا كان الشّأن مع القافية والرّوي حيث لم يلتزم السيّاب خلال قصائده بل داخل القصيدة الواحدة قافية موحّدة ولا رويّا بعينه فكان البناء حرّا يتصرّف فيه الشّاعر على حسب ميولاته وحالاته النّفسيّة والشّعوريّة ولعلّ التحرّر من هذا البناء المنتظم الّذي يفرضه علم العروض خير معبّر عن شكل من التّوق إلى التّحرّر من ربقة الموروث واستشراف عالم شعريّ أكثر رحابة واتّساعا وتنويعا.لذلك لقيت تجربة السيّاب بالشّعر الحرّ الّذي لا يخضع لنواميس محدّدة مسبّقا استحسانا من القرّاء الأكثر ميلا إلى التّحديث والدّاعين إلى معاصرة كليّة.
وهكذا تمكّن السيّاب بواسطة التّوقيع البصريّ أن يخلق وينشئ لقصيدته بنية متفرّدة لا تخضع ولا تركن إلاّ لاضطرابات الذّات الشّاعرة فكانت بنية فنيّة بحقّ سيحاول المجدّدون بعده تقليده فيها وربّما تجاوزه بعضهم حتّى يكون الشّعر متجدّدا أبدا كتجدّد الحياة وحتّى تستمرّ تجربة الشّعر الحرّ ضربا من الإضافة الإبداعيّة إلى حركة الشّعر العربيّ.