إحكام البناء في رحلة الغفران البنية الحدثيّة الشّخصيّات الزمان المكانإحكام البناء في رحلة الغفران جليّ من خلال تبيّن ما كانت به قصّة من خلال تقسيم المقوّمات القصصيّة إلى حكاية وخطاب دون تفصيل نظريّ فالرّحلة بما هي حكاية نتناول فيها: البنية الحدثيّة والشّخصيّات والمكان والزّمان في حين نتناول القصّة بما هي خطاب: الرّاوي وأنماط الخطاب.
1-البنية الحدثيّة:
عدّ بعض الدّارسين ورود مشهد الحشر بعد دخول الجنة دليلا على غياب التّرتيب المنطقيّ. لكنّ القراءة العميقة تثبت العكس. فقد قصد ذلك قصدا فكسّر النّسق الزّمنيّ حتّى ترتبط مفاصل الحكاية ارتباطا عضويا منسجما فوسّط الاضطراب بين هدوءين حتّى يكون في الموقع البنيويّ المناسب، ذلك أنّ الهدوء يتجسّد في كامل قسم الرّحلة الفردوسيّة أمّا الاضطراب فهو في مشهد الحشر. وقد استجاب نصّ المعرّي إلى قانون الاستقطاب الثّلاثيّ في البناء القصصيّ: هدوء – اضطراب – هدوء.
أمّا تطواف ابن القارح الّذي يبدو على غير منهج فمقصود والغرض منه تسجيل أكثر عدد ممكن من القضايا والمواقف لذلك كانت الأحداث من أصناف متعدّدة وإن كانت تلتقي في أنّها من العجيب( هنالك أحداث خارقة من قبيل انقلاب ملامح الشّخصيّات أو الجمع بين شخصيّات من عصور متباعدة). فشواغل المعرّي تستدعي تنويع الأحداث لأنّ الغرض من حشدها هو إثارة قضايا أدبيّة وعقديّة واجتماعيّة تضمّنت مواقف الكاتب النّقديّة.
وبناء على ما أسلفنا فإنّ الأحداث خضعت لضربين من العلاقات:
-علاقات انضماميّة: فالأحداث تتنامى دون أن تخضع لمبدإ السّببيّة وإنّما تخضع لمبدإ التّجاور. وهذه البنية تجعل النصّ مفتوحا منسجما مع حركة البطل الّذي ” يسير على غير منهج”. وذلك من قبيل قوله:” يخطر له حديث شيء كان يسمّى في الدّار الفانية” أو ” ويبدو له أن يصنع مأدبة في الجنان”.
-علاقات استتباعيّة: أي أنّ العلاقة بين الأحداث علّية فالمقطوعات السّردية مرتبطة ببعضها البعض ارتباط الأسباب بالنّتائج. ومثال ذلك، يقول ابن القارح:” فكيف لنا بأبي بصيرفلا تتمّ كلمة إلاّ وأبو بصير قد خمّسهم” فاتحاق الأعشى بمجلس المنادمة يؤثّر في المجلس أوّلا عندما يقول ابن القارح: يا أبا بصير أنشدنا قولك” ويؤثّر في المجلس ثانيا عندما يقول لبيد: سبحان اللّه يا أبا بصير بعد إقرارك بما تعلم غفر لك وحصلت في جنّة عدن” ويؤثر في نفس المجلس ثالثا عندما ينشب خلاف بينه وبين النّابغة الجعديّ فيتفرّق أهل ذلك المجلس.
2-الشّخصيّات:
من أظهر الدّلائل على إحكام البناء في الرّحلة تصوير الشّخصيّات وتدبير العلاقات بينها فظهورها خاضع لنظام قوامه التّدرّج فالأعشى مثلا ظهر أوّلا بعالمه الشّعريّ ثمّ بشعره ثمّ ظهر هاتفا مبشّرا. كما أنّ العلاقاتبينها شديدة التّنوّع لكنّ الّذي يجمعها هو منطق الثّنائيّات:
-ثنائيّة الإفراد( ابن القارح) والجمع الآخرون
-ثنائيّة الحضور والغياب.
-ثنائيّة الحركة والسّكون: ففي أغلب الأحيان تكون الشّخصيّات ساكنة إذا تحرّك ابن القارح وتكون متحرّكة إذا سكن. كذلك الّذي يجمعها هو سؤال البطل الثّابت:” بم غفرلك؟” أو ” لم لم يغفر لك؟” فنتتولّد بذلك قصص صغيرة فرعيّة غير منفصلة عن القصّة الأمّ. هذا ويمكن أن نذكر أنماطا أخرى من العلاقات بين الشّخصيّات مثل التّكامل (رضوان- زفر ) التباين الأعشى النّابغة الذبيانيّ التّماثل( عوران قيس-توفيق السّوداء-حمدونة) أمّا الذي يشرّع الجمع بين شخصيّات متباينة الجنس متباعدة في الأزمنة فهو العالم العجيب الّذي يخرق قوانين الطبيعة ومقتضيات المنطق المألوفين فيصنع قانونه الدّاخلي ومنطقه الخاص.تجمع هذه الشّخصيّات بين التّاريخيّ الثّقافيّ من جهة والتّخييلي القصصي من جهة ثانية فالأعشى مثلا له وجود تاريخيّ في الدّنيا كشاعر وله وجود فنّي قصصيّ في الرّحلة وبذلك جعل المعرّي حياة الشّخصيّ امتدادا فنّيا لحياة الشّخص في الحياة الدّنيا فحقّق بذلك إضافة بديعة.
3-الزّمان:
إنّ تحوّل زمن الخطاب من الماضي إلى المضارع لا يدلّ على اعتباط وإنّما اقتضته ضرورات فنّية فلولا هذا التّحوّل لما انتقل الخطاب من الواقع إلى الخيال ولمّا تحوّل المعرّي من باثّ إلى راو وابن القارح من متقبّل إلى موضوع..وقد اعتمد المعرّي التوفيق بين الزّمن الخارجي القائم على الذّاكرة لاسترجاع حياة الشّخصيّة وبين الزّمن الدّاخليّ الّذي تجري فيهالأحداث. وبذلك يكونالمعرّي قد وفّق بين الزّمن النّسبي والزّمن المطلق.
4-المكان:
قام المكان دليلا على إحكام البناء الّذي يثير التّعجيب فالمعرّي لم يقدّمه دفعة واحدة بل جزّأ فضاءاته بحسب حركة البطل وتنقّله فيه. ويمكن ذكر مستويين للمكان: ·مستوى عامّ: ثنائيّة الأرض والسّماء ودلالتهما على الموجود والمنشود ·مستوى الخاصّ: ثلاثيّة الجنّة والمحشر والجحيم.
وبذلك يكون إحكام البناء في رحلة الغفران جليا
مقالات ذات صلة بالموضوع
- الإضحاك في رحلة الغفران نقد و احتجاج
- السخرية في رحلة الغفران إمتاع
- آليات السخرية من ابن القارح في رحلة الغفران
- الإضحاك في رحلة الغفران حاجة نفسية
- الإضحاك في رحلة الغفران تقليد أدبي
- الإضحاك في رحلة الغفران بين الحاجة والاحتجاج
- تجليات الخيال في رحلة الغفران
- مصادرالخيال في رحلة الغفران
- مفهوم الخيال في رحلة الغفران
- الجرأة في رحلة الغفران
- تدريب على إنتاج مقال أدبي رحلة الغفران
- إحكام البناء في رحلة الغفران
- إحكام البناء في قسم الرحلة ( الجزء الثاني)
- إحكام البناء في رحلة الغفران ( الجزء الثّالث
- السخرية في رحلة الغفران الآليات والمقاصد
- السارد في رحلة الغفران أنواعه و مواقعه
- وظائف السارد في رحلة الغفران:
- السخرية من ابن القارح
- النسيج الفني المثير:توليد الحكاية من نصوص تراثية
- المعري محاجج لواقع المجتمع: الطريقة والقضايا والغايات
- المعرّي محاجج لثقافة العصر: