تجلّت أزمة البطل في المقامات في مستويات أربعة: الصّفات، الأفعال، الأحوال، الأقوال.
وهو تدرّج من هويّة الذات إلى حركة الجسد فحركة الرّوح ومن الظّاهر إلى الباطن.
تجلّيات أزمة البطل في المقامات من خلال الصفات:
تعدّدت الصّفات من المعالم القارّة الّتي تميّز الانسان عن غيره إلاّ أنّها متغيّرة في أبطال المقامات ذلك أنّ البطل المكدّي لا يستقرّ على صفة وهيأة واحدة. فهو شابّ “قصير من بين الرّجال .” وهو ” رجلّ حزقة”. إلاّ أنّه جميل كامل الطّلعة بهيّها في المقامة الشّيرازيّة ” ذو شارة وجمال وهيأة وكمال”. إلاّ أنّه ينقلب في آخرها إلى كهل قد ” غبر الفقر وجهه وانتزف ماءه الدّهر”. ولم تسلم نسبته من الاضطراب والتّحوّل فهو يتردّد بين العروبة والعجمة فتارة ينتمي إلى سليم وقريش وعبس وتارة أخرى إلى النّبيط. يقول في المقامة البلخيّة:
إنّ للّه عبيدا***أخذوا العمر خليطا
فهم يمسون أعرا***بًا ويضحون نبيطا.
يعدّ هذا التّذبذب في الانتساب من أحدِّ درجات الأزمة لدى البطل المكدّي. فقد خرق قاموس الانتساب القائم لدى البطل المكدّي على الثّبات والقرار لأنّ أصل الانسان لا يتغيّر. فهو حقيقة تتجاوز اختيار الشّخص ولكنّ البطل المكدّي يتلوّن كالحرباء في نسبه وأفعاله. ألم يقل في المقامة المكفوفيّة:” أنا أبو قلمون في كلّ لون أكون”.
تجلّيات أزمة البطل في المقامات من خلال الأفعال:
إن الأفعال في علاقة جدليّة مع الصّفات فهي حركة دائبة سريعة النّسق وقد تجلّت في حركة السّفر. وهو الّذي ينخر البطل المكدّي منذ كان فتيّا. فظلّ يرتحل عبر الزّمان والمكان “فكأنّها ضاقت عنه الدّنيا وفاض عنها أو وقع عليها فأخذها”.
وظلّ يقطع البراري والقفار باحثا عن الاستقرار. ولا قرار مثله في ذلك كمثل ظمآن يجري وراء السّراب : ” سلوا عنّي البلاد وحصونها. والجبال وحزونها والأودية وبطونها والبحار وعيونها والخيل ومتونها.”
وقد أصيب الرّاوي بعدوى الرّحيل فأضحى كالظلّ الّذي لا يثبت في مكان معيّن بل ينتقل بانتقال الشّمس. لا يحلّ بمكان إلاّ ليغادره بعد برهة قصيرة. ” حدّثنا عيسى بن هشام قال” ” كنت باصبهان اعتزم المسير إلى الرّيّ. فحللتها حلول الفيء أتوقّع القافلة في كلّ لمحة وأترقّب الرّاحلة كلّ صبحة.”
وكان كلّما همّ به الوطن حالت دونه الأسباب. فقد فكّر في المقامة الفزّاريّة في العودة إلى الوطن وهمّ به. ” وأنا أهمّ بالوطن فلا اللّيل يثنيني بوعيده والبعد يلويني بيده. ” لكن أبا الفتح يحول بجهته ويغريه بالارتحال من جديد. فكان طول المقامات مشرّقا والبطل مغرّبا يطويان الزّمان والمكان ” وصعدت وصوّب وشرّقت وغرّب.” “وراح مشرّقا ورحت مغرّبا.”
تبرز أهمّية المكان عنوانا للتّرحّل في عناوين المقامات فقد محلت احدى وعشرون مقامة عنوان المكان لغرض التّأكيد على مفهوم السّفر. وتضيق على البطل المكدّي الدّنيا والمكان فيواصل رحلته عبر الزّمان يطويه طيّا عجيبا. فهو في المقامة القريضيّة شابّ وهو في الخمريّة شيخ. وينقلب إلى شابّ في المطلبيّة وقد يتسارع نسق الزّمان فيتحوّل البطل في نفس المقامة من سنّ الشّباب ّإلى الكهولة.
كانت الرّحلة في الزّمان والمكان علامة من علامات أزمة البطل. فقد ضاقت عنه الدّنيا بما رحبت نتيجة ضيق صدره وانقباض نفسه. وظنّ أنّه سيلقى الخلاص من أزمته في الفضاء الزّمانيّ والمكانيّ. لكنّه يضرب في الأرض دون وجهة أو غاية كالباحث عن المطلق تستهويه المسافات.
مظاهر الأزمة من خلال الأحوال:
أمّا الأحوال فهي إلى التّحوّل أو إلى التّحرّك أقرب، وكانت حالة المكدّي الظّاهريّة أشدّ تقلّبا من مفهوم الحال نفسه. فهو في البلخيّة في زيّ ملء العين و”لحية تشوك الأخدعين وطرف قد شرب ماء الرّافدين. ” وهو في نهاية المقامة الشّيرازيّة “كهل قد غبر وجهه الفقر”. وهو في الحلوانيّة ” رجل لطيف البنية.” وفي العراقيّة ” فتى في أطمار يسأل النّاس والنّاس يحرمونه.” وهو طريد الجوع في النّاجميّة.
وباستقصائنا لأحوال أبي الفتح الظّاهريّة ننتهي إلى حقيقتين تلامان البطل وهما:
– تحوّل دائب في حال البطل من السيّء إلى الحسن ومن الضرّاء إلى الضرّاء وهو في ذلك كمن يخبط خبط العشواء.
– غلبة سوء الحال على أبي الفتح. فقد ظهر في المقامات بائسا يعيش الفقر المدقع أدّى به إلى ذلّ السّؤال وإراقة ماء الوجه. أمّا عيسى بن هشام فرغم ثرائه وحسن أحواله فإنّه لم ينج من تقلّبات الحال فهو في المقامة المجاعيّة . “فقير كدّه الجوع وغريب لا يمكنه الرّجوع.” وهو في المقامة البغداديّة جائع” ليس معه عقد على نقد.”
ولم تكن حال البطل المكدّي الباطنيّة بأحسن حال من الحال الظّاهريّة، فلقد ابتلي بذلّ السّؤال والغربة. فكان نكرة خلال المقامات فهو شاب أو رجل أو شيخ محروم من أدوات التّعريف. وهو متميّز عن الجماعة فإذا تكلّمو صمت وإذا صمتوا تكلّم. ” فجلسنا يوما نتذاكر القريض وأهله. وتلقّانا شاب قد جلس غير بعييد ينصت وكأنّه لا يعلم.” وهو في المقامة الشّعريّة “فتى يسمع وكأنّه يفهم”. وهو في المطلبيّة ” لا ينبس بحرف ولا يخوض معنا في وصف.”
وتخترق الغربة حجب الذّات. فإذا هي تطعن النّفس وتؤدّي بالبطل إلى الجنون في المقامة الحلوانيّة. ويتعمّق مفهوم الغربة في هذا المشهد فينقطع عن عالم النّاس بانقطاع قناة التّواصل. ذلك أنّ أسباب التّواصل منقطعة بين العقل والجنون.
مظاهر الأزمة من خلال الأقوال:
تعتبر الأقوال من أهمّ علامات الأزمة في المقامات فالنّصّ متوتّر بنية ومضمونا، تتجاذبه تتجاذبه ثنائيّة النّثر والشّعر. وهما جنسان أدبيّان لا ينتميان إلى مجال فنّي واحد، لكنّ الهمذانيّ قد جمع بينهما في المقامة الواحدة. والجمع قد يوهم بتعاضد في المعنى والمضمون الفكريّ إلاّ أنّ المتأمّل في النصّ يفضي بنا إلى إثبات حقيقة اختلاف الجنسين. ذلك أنّ النّثر يمثّل القناع الّذي يتخفّى وراءه البطل فهو وسيلة الكيد بالنّاس والتّحيّل عليهم.
أمّا الأشعالر فهي الحقيقة الجوهريّة الّتي يخفيها البطل ويظنّ بها على النّاس ولا يصدح بها إلاّ في آخر المقامة مفسّرا كذبته وتحيّله. وهي المرايا الّتي تعكس حرارة صدقه وشوقه لأنّ الشّعر متّصل بالشّعور.
وكانت أولى التّجارب الإبداعيّة في الثّقافة العربيّة شعرا وكانت الرّوائع المعبّرة عن حال الوججدان وأحاديث الرّوح شعرا. وكانت الحكمة في نشأتها شعرا. ولذلك احتفظت الذّاكرة العربيّة بالشّعر عنصرا من عناصر هويّتها ميّزها عن سائر الأمم والشّعوب.
وللأشعار وظيفتان في المقامة:
- فكريّة: لأنّها تعبّر عن موقف من العالم ورفض للقيم السّائدة في العصر.
- وجدانيّة: لأنّها تعبّر عن حال النّفس المتألّمة من الأقنعة الّتي تحملها اضطرارا فجاءت تعجّ بالشّكوى من الزّمان والانسان.