وجوه إدراك العلم بما هو غائب
التّقديم:
النّصّ الموصوف حجاجيّ ذو صبغة تعليميّة وهو من جنس الرّسالة الأدبيّة أخذ من رسائل الجاحظ
الموضوع:
يؤسّس الجاحظ في النّصّ التّراتبيّة في المعرفة النقليّة المبنيّة على الرّواية والنّقل والأخبار داعيا إلى اتّباع منهج علميّ في التّعامل معها تصديقا وتكذيبا.
المقاطع:
أخضع الجاحظ نصّه لبنية حجاجيّة متدرّجة منطلقها عرض أطروحة أساسها الإلماع إلى مصادر المعرفة النّقليّة أمّا المقطع الثّاني منها فيمتدّ من قوله “فما غاب” إلى قوله ” فقد غاية وحاصله بناء تراتبيّة في المعرفة النّقليّة أمّا المقطع الثّالث فمرجعه إلى الاستنتاج وأساسه دعوة إلى التّمسّك بالعقل في تدبّر المعرفة وتحذير من تبعات التّخلّي عنه والتّفريط فيه
التّحليل:
منشورات ذات صلة قد تفيدك:
– شرح نص فخر السّودان على البيضان
– حدود النزعة العقلية عند الجاحظ
– منهج الجاحظ في التعامل مع الأخبار
– الخصائص الفنية المميّزة لكتابة الجاحظ
– الموضوعيّة والشك المنهجيّ في الحيوان والرّرسائل
– المعتزلة يتوسّطون الفرق للجاحظ
-مجالات البحث في مؤلّفات الجاحظ
1- عرض أطروحة أساسها الإلماع إلى مصادر المعرفة النّقليّة:
– تتجلّى الصبغة التّعليميّة في بنية الأطروحة باستخدام جملتين إنشائيّتين مفتوحتين على الأمر:اعلم/اعرف أقدار ذلك وبذلك يستوي الجاحظ آمرا موجّها للمعرفة والعلم أمّا المخاطب المرسل إليه فيبدو مفتقرا إلى المعرفة محتاجا إلى العلم دون مرتبة الجاحظ عقلا ومرتبة ونظرا واستدلالا
– يحتفظ الجاحظ في مختلف نصوصه التّاريخيّة منزعا عقليّا بصورة المعلّم الممتلك للمعرفة السّاعي إلى إثارة النّفوس وتهذيب العقول وترويضها على الاستدلال وتدريبها على التّجريد
– أظهر الجاحظ وهو يصوغ أطروحته يقينا مفرطا بكلامه وهو ما وهو ما أوحت به بعض القرائن اللّغويّة الدّالّة على الإطلاق والتّأكيد والتّعميم كقرينة القصر “إنّما” وثنائيّة الإثبات والنّفي وبهذا النّحو يستوي خطاب الجاحظ في الأطروحة يقينيّا مبرّرا ومعلّلا أساسه حصر العلم بالغائب في وجوه ثلاثة ونفي هناء المخاطب في المستقبل في غياب إدراك عقليّ لشؤون الدّين والدّنيا
– لا يكتفي الجاحظ برسم صورة الحاضر بل يمضي إلى استشراف ملامح مستقبل المخاطب فالمستقبل من غير علم ومعرفة ونظر عقليّ مفتوح على التّأزّم والاضطراب وسوء التّدبير
– إنّ حياة الإنسان المضيّع للتّأمّل العقليّ منقوصة غير مكتملة: فالحياة المكتملة المتناغمة العناصر الملتصقة الأبعاد حياة قوامها العقل وما يدور في دائرته من عمليّات ذهنيّة أساسها الاستدلال والبرهان والشّكّ والموازنة والمقارنة.
2- بناء تراتبيّة في المعرفة النّقلية
– يبني الجاحظ مسار الحجاج بناء هيكليّا واضحا أساسه التّدرّج في ذكر الأخبار الموصولة بإدراك الغائب العينيّ ثمّ انتهى إلى الوقوف عند العلم بالغائب غير العيانيّ غير المدرك بالحواسّ وقد رتّبت الأخبار المتّصلة بإدراك العلم بالغائب العيانيّ ترتيبا متدرّجا من القوّة اليقينيّة إلى الضّعف اليقينيّ فالطّريق إلى العلم بالغائب المدرك عيانا هو طريق الرّواية والأخبار والجاحظ لم يسلّم بالمرويّ من الأخبار بقدر ما جرى إلى ضبط شروط ذلك وهو من كشف في الوجه الأوّل والوجه الثّاني من إدراك العلم بالغائب العيانيّ
– إنّ منهج الجاحظ في التّعامل مع الأخبار المرويّة هو منهج علميّ مبنيّ على قاعدة التّجريح والتّعديل والتّثبّت والمقارنة لذلك سلّم بالأخبار المتواترة غير المتناقضة.
– إنّ الخبر الّذي سلّم بصدقه الجاحظ هو الخبر الّذي تتوفّر فيه شروط التّواتر والانتشار وعدم التّناقض.
– من الشّروط الّتي تضمن مصداقيّة المعرفة المرويّة عند الجاحظ هو أن يكون الخبر محلّ اتّفاق بين جميع النّاس وهذا الخبر المتّصف بالتّواتر والشّيوع والاتّفاق بين النّاس هو عند الجاحظ أعلى درجات المعرفة النّقليّة المرويّة مصداقيّة ويقينا.
– أمّا الخبر المرويّ الثّاني فهو أيضا خبر شائع بين النّاس لكنّه محلّ تباين بين النّاس. أمّا المنهج المعتمد من قبل الجاحظ في تجريح هذا الخبر وتمحيصه أساسه المساءلة والاستفسار والاختبار من أجل التّثبّت من عدم تناقض روّاته
– أمّا الخبر الثّالث فإنّه دون الخبرين السّابقين شيوعا وتواترا ومنهج الجاحظ في التّعامل مع هذا الخبر الثّالث أساسه تجريح مصدره من أجل التّثبّت في عدالته وأمانته وصدقه فإن كان الرّاوي بمظهر المخبر العدل الثّقة الأمين كان لزاما التّصديق أو بروايته ثمّ يمضي الجاحظ بأسلوب تقريريّ خبريّ إلى التّعليق على الأخبار الثّلاثة تعليقا معيارياّأساسه المفاضلة
– مثلما اشترط الجاحظ في نصّ سابق إخضاع المعرفة الحسّية والمعرفة الغريزيّة لمعيار العقل ومقياسه من أجل الأخذ بها وتخليصها من مزالقها فإنّه يشترط أيضا في الأخبار المروية المنقولة إخضاعها لمقولات عقليّة واضحة تهدف إلى تمييز الصّادق منها والكاذب ولعلّ ما قاده إلى بناء تراتبيّة متدرّجة للمعرفة المرويّة المنقولة.
– ترجع مزيّة الجاحظ وهو يشيّد مسار الحجاج إلى قدرته المنهجيّة على إعانة القارئ على تبيّن الحدّ الفاصل بين الأخبار المرويّة المنقولة الّتي ينبغي الأخذ بها واعتمدها مصدرا من مصادر المعرفة والأخبار المرويّة الّتي ينبغي الأخذ بها واعتمادها مصدرا في بناء المعرفة فهي الأخبار الصّادرة عن رواة ثقات عدول أمناء وهي الّتي تكون محلّ اتّفاق بين النّاس وهي الّتي تسلم من عدم التّناقض من رواية إلى أخرى على أنّ الأخبار المرويّة الّتي ينبغي الإعراض عنها وعدم الأخذ بها فهي الأخبار غير الشّائعة بين النّاس المفتقرة إلى الاتّفاق والتّواتر الصّادرة عن رواة متناقضين لا يتّصفون بالعدالة والثّقة والأمانة. وجوه إدراك العلم بماهو غائب
– عاد الجاحظ بعد إنهاء التّعليق على تلك الصّنوف الثّلاثة من التّعليق إلى اختزال الكلام السّابق “فهذه الأخبار عن الأمور الّتي تدركها الأبصار” من باب تذكير المخاطب بالقضيّة المطروحة وتهيئة لصنف آخر من المعرفة هو العلم بالغائب غير العيانيّ وقد سلك الجاحظ المسلك نفسه المتمثّل في التّفصيل والتّوكيد والتّمثيل وقد بني العلم بالغائب غير المدرك بالحسّ وبالعيان على قاعدة الاستقراء بعتماد الظّواهر أدلّة على البواطن سرائر القلوب من جهة والحكم بالأمور الغالبة على جوهر الظّاهرة لكنّ الجاحظ يبدو وهو يؤسّس المعرفة العلميّة بالغائب غير المتعيّن معترفا بحدود العقل في الإلمام بمختلف أبعاد الغائب ما ظهر منه وما خفي معترفا في المقابل بتفرّد الذّات الإلهيّة بالمعرفة الكاملة الوافية
وجوه إدراك العلم بماهو غائب
– يخلص الجاحظ في نهاية سيرورة الحجاج إلى عرض منهجه العلميّ في بناء المعرفة بالأمور الغائبة وقد صاغ هذا المنهج صوغا متدرّجا في أسلوب خبريّ حضر فيه التّرتيب والقصر “إنّما” والشّرط “كلّما” والتّعليل”حتّى” وبهذا النّحو يجعل الجاحظ من المعرفة الظنّية المبنيّة على الشّكّ قادحا لبناء المعرفة العلميّة”أوّل العلم بكلّ غائب الظّنون” ثمّ يمضـي بتركيب شرطيّ تلازميّ يجري إلى إقامة تلازم بين زيادة الأدلّة وتحوّل الظّنّ واقتراب الظّنّ إلى جهة اليقين وقد أفضى هذا التّلازم بين زيادة الأدلّة من جهة واقلاب الظّنّ التّدريجيّ إلى يقين من جهة ثانية إلى درجة قصوى أوحت بها القرينة اللّغويّة “حتّى” المفيدة لانتهاء غاية الفعل وأساس هذه اللّحظة القصوى زوال الشّكوك كلّها بما يرتقي بالظّنّ من مرتبته الظّنّية إلى مرتبة المعرفة اليقينيّة الحاصلة على التّصديق وقد علّل الجاحظ كدأبه بمختلف نصوصه السّجاليّة الحجاجيّة انقلاب الظّنّ إلى معرفة يقينيّة بعلّتين اثنتين إحداهما كثرة الدّلائل وتواترها وثانيتهما اتّحاد تلك الدّلائل في إنتاج نصّ المعرفة.
3- الاستنتاج
أساسه دعوة إلى التّمسّك بالعقل في تدبّر المعرفة وتحذير من تبعات التّخلّي عنه والتّفريط فيه:
– استهلّ الجاحظ القسم الثّالث بتركيب شرطيّ تلازميّ ربط فيه بين التّعلّق بالمعرفة والسّعي إلى طلب الأسباب وتبيّن العلل من جهة والاقتراب من المعرفة من جهة ثانية. – فمن أمارات العقل عند الجاحظ عدم القناعة بالظّواهر والمسبّبات والمحسوسات والسّعي في مقابل ذلك إلى تحصيل الأسباب وإدراك العلل والقبض على محرّكات الظّواهر ولعلّ ما دفع الجاحظ إلى التّحفيز على على الرّبط بين المسبّبات والأسباب وبين الأشياء وعللهاالمحرّكة وظواهر الكون ببواطنها هو حرصه على إدراك تناغم الكون لأنّ العبور من الظّاهرة العيانيّة بانسجام خفيّ غير عيانيّ والكثرة إلى الوحدة غير أنّ الجاحظ سرعان ما عاد إلى استخدام خطاب تعليميّ باستدعاء صيغة الأمر “اعلم” وهي صيغة تخرج المخاطب بمخرج الجاهل غير العارف بأسرار الكون وطرق تدبّره علميّا من جهة وباستدعاء أسلوب النّهي من جهةأخرى (س27) : فالجاحظ ينهى مخاطبه عن التّخاذل والتّهاون في إعمال العقل ويحفّزه في مقابل ذلك على التّعلّق بتلك الملكة رغم الاعتراف بحدودها
– وقد اتّبع الجاحظ هذا الطّلب بتعليل له صيغ بأسلوب خبريّ تجسّم في بنية الخبر الإنكاريّ المؤكّد بمؤكّدين “إنّ” “قد” وقد علّق الخبر بشخصيّة الحكماء باعتبارها شخصيّة تمثّل سلطة ثقافيّة عليها إجماع في المعرفة وإدراك الحقائق وأساس الخبر المرفوع إلى الحكماء مفاضلة بين الجهلاء الواصلين إلى المعرفة من باب الصّدفة ومن غير منهج المختلط في تدبيره والعلماء غير الواصلين إليها وإن استند إلى منهج علميّ أساسه الحزم والحذر والنّظر والاستدلال والبرهان.
– والجاحظ إذ يفضّل العلماء على الجاهلين فإنّه يجعل من طبيعة المنهج المعتمد في البحث عن المعرفة معيارا في المفاضلة فالعبرة عند الجاحظ بالمنهج العلميّ المعتمد لا بالنّتيجة الّتي يصل إليها وبهذا النّحو يسعى الجاحظ إلى تدريب العقل على استخدام منهج علميّ في البحث عن حقيقة وترويضها على التّخلّي عن الاختلاط والظّنّ والتّخمين والتّفريط والاحتكام إلى العواطف والغرائز والوجدان.