تتجسّم مأساويّة أبي هريرة في مستويات مختلفة:
مأساويّة أبي هريرة في مستوى الأقوال:
اعتبار أبي هريرة وجوده محدودا ووعيه بأنّه كائن إلى موت وفناء وأنّ الدّنيا عبث لا معنى لها ــــــ قال أبو هريرة لأبي المدائن ” ويل للّذين يموتون ثمّ لا يبعثون ” ( حديث الجمود ) وقال:” نصلّي أو لانصلّي ونسعد أو نشقى هل ترون فيه من خير أو شرّ” ثمّ قال:” شرّ ما في الدّنيا أنّ الحياة عبث ” ( حديث الحقّ والباطل ) وقال:” فصار لي اللّيل والنّهار كالعبث ليس من ورائهما شيء واستوى لي الزّمان فهو كالبحر السّاجي” حديث الطّين.
في مستوى الأحوال:
توظيف الرّواة وحدات سرديّة وصفيّة كثيرة تؤكّد عمق شكّ أبي هريرة في إرادته وقدرته أو إحساسه بلا جدوى مغامرته الوجوديّة: مثال قال أبو المدائن” جئت أبا هريرة ليلة فإذا هو في جمود الصّخرة لا يشكو ولا يستطيع إليه سبيلا ولا يبكي” (حديث الجمود) وقال أبو عبيدة:” ولم يزل أبو هريرة في ذلك العهد كالنّافر من النّاس… فكأنّه مات في باطنه بعض ما يكون به الانسان انسانا أو عميت بصيرة وكان ذلك أوّل انحداره إلى نحبه” ( حديث الجماعة).
في مستوى الأفعال:
تجسّم ذلك في فشل تجارب أبي هريرة المتعدّدة ، انغلاق تجربة الحسّ وتجربة الجماعة وتجربة الدّين وتجربة الحكمة على فشل البطل ــــ لا الحسّ ولا الجماعة ولا الدّين ولا الحكمة استطاعوا أن يرقوا بالبطل عن رتبته البشريّة: بقاء البطل في الدّرجة الصّفر من صفة المطلق ــــــ أبو هريرة بدأ انسانا وانتهى انسانا لذلك قيل ”أراد أبو هريرة أن يكون إلها مترفّعا عن أهل زمانه فما كان إلاّ إنسانا”.
في مستوى الزّمان:
انغلاق الأحداث على الظّلمة: اختيار المسعديّ أن تنتهي التّجربة الوجوديّة لأبي هريرة على زمن الغروب وظلمة اللّيل اختيار وظيفيّ: الغروب واللّيل رمز للقتامة والمأساويّة ــــــ ظلمة النّهاية رمز لمأساويّة الوضع الانسانيّ في الوجود ــــ تتأكّد المأساويّة في الزّمان أيضا من خلال كثافة حضور الظّلام في كلّ تجارب أبي هريرة الوجوديّة.
في مستوى الأصوات:
انغلاق الأحداث على صيحات الفزع والألم: قال أبو المدائن في حديث البعث الآخر ” وغاب عنّي في اللّيل فلم تمضي هنيهة حتّى سمعت صخورا هاوية وصهيل ألم… ” ــــــ صيحات الفزع والألم رمز للقدر الإنسانيّ القاسي أنّ حياته ”كون واستحالة فمأساة” ـــــ تكثّف البعد المأساويّ في النّهاية انطلاقا من الدّم الذي رآه أبو المدائن على الصخر في ( حديث البعث الآخر )
مأساويّة أبي هريرة في مستوى مآله:
موت البطل في خاتمة مغامرته الوجوديّة. قال أبو المدائن في حديث البعث الآخر ” فلمّا أصبحت نظرت فإذا أنا على قمّة جبل وإذا دم على الصخر… رحم اللّه أبا هريرة لقد كان أعظم من الحياة” (حديث البعث الآخر ).