الممثّل والتّغريب في مسرح ونّوس
تمهيد:
الممثّل والتّغريب في مسرح ونّوس
الممثّل أسّ من أسس المسرح، إمّا بتقمّص الدّور أو بالسّعي إلى التّغريب فيه، ففي المسرح الدّراميّ (مسرح أرسطو) بما هو مسرح وهميّ يغدو الممثّل مشابها ومطابقا لأنموذج الشّخصيّة الّتي يصوّرها على خشبة المسرح. ولا يرمي الممثّل في هذا النّوع من المسرح إلى تحريك المتفرّجين أو دفعهم إلى أيّ تفكير نقديّ مهما كان نوعه عن أفعاله وأعماله، إنّه يكتفي بإيهامهم أنّ أفعاله خاضعة إلى قوانين أبديّة لا يمكن تغييرها مطلقا.
أمّا في المسرح التّغريبيّ الملحميّ فإنّ الممثّل يسعى إلى شدّ انتباه المتفرّجين إلى الحدث الصّغير بإبراز قيمته وأهمّيته يجعله غريبا مدهشا ومن الطّرائق الّتي يعتمدها الممثّل لتجسيد التّغريب على المسرح نذكر:
- ازدواجيّة الدّور.
- الجمع بين الماضي والحاضر.
- التّعليقات في الحوار
1- ازدواجيّة الدّور:
اعتمد سعد الله ونّس هذه الطّريقة في مسرحيّة مغامرة رأس المملوك جابر فجعل أحد الممثّلين يؤدّي دورين، فدور منصور ودور الرّجل الرّابع يؤدّيه ممثل واحد.
“بينما الحوار مستمرّ يدخل رجل رابع يحمل كيسا فارغا يمكن أن يقوم بدوره الممثّل الّذي يقوم بدور منصور” وقد جعل ونّوس بعض الزّبائن يعلّقون على ذلك:
زبون1: هو بعينه.
زبون2: الشّخص الّذي كان مع المملوك جابر
أمّا خليفة بغداد ووزيره وملك العجم هلاوون فيتكفّل بأداء أدوار هذه الشّخصيّات جميعها ممثّل واحد وكذلك الشّأن بالنّسبة إلى شخصيّات مثل عبد اللّطيف وابن الملك هلاوون.
” أثناء كلام الحكواتي يدخل الممثّلان اللّذان قاما بدوري الوزير والأمير عبد اللّطيف… هما الآن يمثّلان دوري الخليفة المنتصر بالله وأخيه عبد الله.”
“يظهر ديوان الملك منكتم بن داوود… وهو فاخر الرّياش، وشبيه بديوان كلّ من الخليفة والوزير. الملك منكتم يجلس على العرش، وإلى جواره ابنه هلاوون. يؤدّي الدّورين الممثّلان اللّذان أدّيا أوّلا دوري الوزير وعبد اللّطيف، وثانيا دوري الخليفة وعبد اللّه”
إنّ الغرض من آليّة التّغريب هذه وهي ازدواجيّة الدّور هو أنّ لا يسكن الممثّل حلد الشّخصيّة تماما حتّى لا يسقط في ذاهرة التّماهي الّتي تفسد التّغريب وتجعلنا أقرب ما نكون إلى لعبة الإيهام، ثمّ إنّ هذه الازدواجيّة تأخذ طابعا إيحائيّا إذ تدفع المتفرّج إلى فهم آليّات السّلطة الفهم الصّحيح والعميق فلا فرق بين الوزير والخليفة والملك هلاوون من حيث الدّلالة على الرّغبة في بسط النّفوذ والهيمنة لكن كلّ واحد منهم بطريقته وأسلوبه ووفقا لمطامحه ومصالحه.
2- الجمع بين الماضي والحاضر
تتجلّى هذه الظّاهرة من خلال تعليقات الزّبائن عمّا يجري في بغداد من خلاف سياسيّ وما يجرّه من انعكاسات سلبيّة على حياة النّاس اليوميّة فإثر خروج مجموعة الممثّلين الّذين يجسّدون أهالي بغداد وهم أقرب إلى الجوقة يورد الكاتب التّعليقات التّالية:
“زبون2: أي والله كأنّ الأحوال لا راحت ولا جاءت”.
“زبون3: يا سيدي مِنْ زمان هذا هو طريق الأمان”.
ويتمّ الرّبط بين الماضي والحاضر في المسرحيّة من خلال شخصيّة الرّجل الرّابع على وجه الخصوص، فهو يسعى من خلال أقواله إلى بثّ الوعي في صفوف الجماهير (أهالي بغداد) وكلامه مزدوج الوجهة: إنّه موجّه في الظّاهر إلى أهالي بغداد لكنّه في الباطن موجّه إلى زبائن المقهى، ولذلك يذهب النّاصر العجيميّ إلى القول إنّ الرّجل الرّابع يشخّص المعادل الموضوعيّ للرّاوي والمؤلّف ويمثّل شرائح من المجتمع تحيل على زبائن المقهى وعلى الجمهور من خلالهم. إنّ الوضعيّة التّاريخيّة الحافّة بالرّاوي والزبائن ومن خلالهم بالمؤلّف والجمهور.
3- اللّجوء إلى التّعليقات في الحوار
كثيرة هي التّعليقات الّتي يوردها الكاتب على لسان الزّبائن أو على لسان الرّجل الرّابع متوجّها إلى الزّبائن، وهو ما يساهم في كسر الجدار الرّابع بين الرّكج والصّالة.
إنّ السّؤال عن الأشياء المألوفة والبديهيّة يمكن أن يكون من وسائل التّغريب في الحوار فعندما نطرح السّؤال عن مثل هذه الأشياء فنحن نرمي إلى معنى خاصّ ينبغي الالتفات إليه. ولعلّ الأسئلة الّتي يطرحها الرّجل الرّابع في حواره مع أهالي بغداد هي الكفيلة بلفت أنظار المتفرّجين إلى حقائق لم تكن لتبرز لولا السّؤال عنها:
“الرّجل الرّابع: لا مؤاخذة، وهل من بينكم من يعرف بالضّبط ما يجري؟
وردّا على هذا السّؤال يندفع كلّ من الممثّلين الخمسة يشرح له الوضع، غير أنّ الرّجل الرذابع يظهر رغبة في معرفة ما وراء ما يجري في الشّوارع.
“الرّجل الرّابع: ما أجهله كثير. كنت أسأل إن كان بينكم من يعرف سبب الخلاف أو توتّر الأوضاع.”
إنّه يريد اختراق دنيا السّياسيّ ويرى أنّ طريق الخبز والأمان لايكون باللامبالاة الّتي يظهرها أهالي بغداد وإنّما بالبحث عن سبب الخلاف بين الخليفة والوزير.
هكذا يضع ونّوس المسألة السّياسيّة على محكّ الوعي، وهذا مظهر أصيل من مظاهر التّغريب. في هذه اللّحظة الّتي بدأ فيه الوعي بطرح المشكل الحقيقي يظهر الحرّاس وظهورهم رمزيّ مقصود من الكاتب وهو الّذي يراهن على إثارة القضيّة السّياسيّة بأسلوبه التّغريبيّ وما يُسْتَفاد من هذا الظّهور أمران: هو أنّ السّلطة السّياسيّة تنشر عيونها في كلّ مكان وهي مستبطنة في أعماق أنفس المحكومين كالقدر العاتي الصّلب الّذي لا ردّ له، فتخوّف الجماعة من حديث الرّجل الرّابع وما يمكن أن ينجرّ عنه له ما يبرّره.
هكذا يميط الكاتب السّوريّ سعد الله ونّوس بلغة فنّية موغلة في الإيحاء عن آليات الكبت الدّاخليّ والرّقابة الذّاتيّة الّتي تمارسها ذوات المحكومين على أنفسهم.
إنّ التّغريب يتمّ أحيانا بالتّظاهر بعدم الفهم ويهدف هذا التّظاهر بطبيعة الحال إلى زيادة الفهم أي إلى نفي النّفي. فتكديس الغموض أو تكويمه يسهّل عمليّة إزالته دفعة واحدة ليحلّ محلّه الوضوح المصحوب بالدّهشة والانبهار.
ومثل هذه الطّريقة في التّغريب يعتمدها ونّوس في الحوار الدّائر بين مجموعة الممثّلين الّذين يجسّدون أهالي مدينة بغداد والرّجل الرّابع
ّالرّجل الثّالث: سأقول لك شيئا… عشت عمرا طويلا يكفي لكي يتعلّم المرء كيف تجري الأمور هنا. مهما اشتدّت الخلافات بين سادتنا، وفرّقت بينهم المصالح، فإنّهم يظلّون متّفقين على شيء واحد. أتعرف ما هو أيّها الرّجل الّذي لا تنقصه الفطنة؟
الرّجل الرّابع: أتمنّى أن أعرف ما هو.
الرّجل الثّالث: هو ألاّ نتدخّل نحن العامّة في شؤونهم وخلافاتهم. ولو فعلنا لتوحّدوا فورا، واتّجهوا بكلّ قواهم نحونا.
المرأة الأولى: وبعدئذ تمتلىء السّجون
الرّجل الثّاني: ويختفي الرّجال.“
إنّ الممثّل المغرّب يضطلع بدور نزدوج مرّة كممثّل لشخصيّة في خضمّ الأحداث على المسرح يستعرض من خلالها موقفا أو حدثا تاريخيّا معيّنا أو موقفا يمسّ الزّمن الحالي ومرّة أخرى كممثّل يتصرّف مع المشاهدين بصورة نموذجيّة ويؤكّد مجال الحاضر لمسار الأحداث الّتي تجري على خشبة المسرح. ولعلّ هذا ما ينطبق تمام الانطباق على شخصيّة الرّجل الرّابع.
الممثّل والتّغريب في مسرح ونّوس