اهتمّ الجاحظ بـ الحوار في البخلاء اهتماما بليغا. واتّخذه أداة للكشف عن نفوس شخصيّاته وتوجّهاتهم وتحليل دوافعهم العميقة وتصوير أخلاقهم ومشاعرهم وأحاسيسهم وطريقة تفكيرهم. وتأتي بعض النّوادر حوارا كلّها وفيه تكمن قوّة النّادرة كما في نادرة الأصمعيّ مع جلسائه.
ويلعب الحوار دورا كبيرا في تطوير الأحداث ورسم المواقف واتّجاهاتها في بعض النّوادر. يقول الجاحظ في إحدى قصصه:” كان أبو الهذيل أهدى إلى مويس دجاجة. وكانت دجاجته الّتي أهداها دون ما كان يتّخذ لمويس، ولكنّه بكرمه وحسن خلقه أظهر التّعجّب من سمنها وطيب لحمها.”
هذه الحادثة استتبعت موقفا نفسيّا خاصّا من مويس فهو يبدي التّعجّب من سمن الدّجاجة واكتناز لحمها لكنّه يخفي في نفسه أنّها لم تكن شيئا. ثمّ يأتي الحوار كلّه ليلعب بهذا التوتّر النّفسيّ حتّى المشهد الأخير. بل إنّ الجاحظ أحيانا يتقمّص انفعال بطله إذا سكر وتلعثم في حوارهأو ادّعى واضطرب في حديثه فهو يحكي حالة السّكران أو المجنون كما في نادرة أبي مازن وجبل الغمر.
و الحوار في البخلاء شديد الصّلة بالحياة والمجتمع، يراعي فيه ثقافته الشّخصيّة ومنزلتها الاجتماعيّة. لذا اختلف الحوار باختلاف مستوى الشّخصيّة. ولأنّ الجاحظ كان واقعيّا في اختيار نماذجه من الحياة فقد أعطى لكلّ شخصيّة حوارها ولغتها كما هو في الواقع. لذا يترك اللّفظ العامّي أو الكلام غير المعرب كما هو اعتقادا منه بأنّ الإعراب لا يتّسق مع الموقف أو الشّخصيّة. أو أنّه لا يستقيم مع محاولة تصوير الواقع بحذافيره، ويرى أنّ التّقعّر والتّعقيد اللّغوي قد يبغض هذا الباب ويخرجه عن حدّه. ويدفع بالقرّاء إلى النّفور.
أمّا حينما تكون الشّخصيّة من اللّغويّين والمتكلّمين والمتفلسفين يكون حديثه بكلام معرب. وهو يقرّر ذلك في الكتاب:” وإن وجدتم في هذا الكتاب لحنا أو كلاما غير معرب، ولفظا معدولا عن جهته فاعلموا إنّا تركنا ذلك لأنّ الإعراب يبغض هذا الباب ويخرجه عن حدّه.” إلاّ أنْ أحكيَ كلاما من كلام متعاقلي البخلاء وأشحّاء العلماء كسهل بن هارون وأشباهه.”
فالأصمعيّ – مثلا – صوّر الجاحظ حواره تصويرا حيّا نكاد نشتمّ منه رائحة البادية. بينما يستخدم حتّى الألفاظ الفارسيّة في حوار الشّيخ مع زميله العراقيّ ويترجمه إلى العربيّة.
ويمتاز الجاحظ في حواره بالجدل، والجدل سمة رئيسيّة في نثره، فهو يحكّم عقله دائما وماذاك إلاّ أثر كبير في صقل مواهب الجاحظ الفنّية في الحوار لما عرف عنهم من قوّة المجادلة. لهذا نجد معظم البخلاء أصحاب منطق وجدل، يدافعون عن مذهبهم في البخل كما يدافع المتكلّمون عن عقيدتهم ويجادلون من يعيب عليهم تقتيرهم، كما يجادل المعتزلة أصحاب الفرق الأخرى.