شرح نص الكلمة الطيبة رحلة الغفران
يمثّل النّصّ لحظة انتقاليّة في بنية رسلبة الغفران باعتبار أنّه لحظة واصلة فاصلة بين الحديث عن رسالة ابن القارح في فاتحة الرّسالة والحديث عن عالم الآخرة في قسم الرّحلة على أنّ رسالة الغفران هي رسالة جوابيّة ردّ على رسالة ابتدائيّة بعثها عليّ بن منصور المعروف بابن القارح إلى المعرّي يستخبره فيها عن بعض المسائل الأدبيّة واللّغويّة والدّينيّة داعيا إيّاه إلى إفتاء له في شروط الغفران والمغفرة وقد أعلن توبته وتصميمه على التّوبة والكفّ عن إتيان المفاسد والمعاصي لعلّه يظفر بالجنّة في الآخرة وقد عرف أبو العلاء المعرّي بزهده في الدّنيا والانقطاع عن النّاس مكتفيا بالنّسك والتّعبّد وقد عاش في النّصف الثّاني للقرن الرّابع الهجريّ والنّصف الأوّل للقرن الخامس الهجريّ والمأثور عنه نزوعه منزعا عقليّا في تدبّر شؤون الدّنيا والدّين متّخذا من العقل إماما له.
الموضوع.
يتدرّج المعرّي من وصف الرّسالة الابتدائيّة والثّناء على منشئها ابن القارح إلى متابعة رحلة المرسل في عالم الآخرة بصفة عامّة وعالم الجنّة بصفة خاصّة منتقدا في ضوء ذلك بعض التّصوّرات السّائدة بشأن مسائل دينيّة ماورائيّة
المقاطع:
شكّل المعرّي نصّه من لحظتين مثّلت اللّحظة الأولى وصف رسالة ابن القارح والإخبار عن صفاته وسماته أمّا اللّحظة الثّانية فهي لحظة خياليّة خرج فيها المعرّي عن الحديث عن رسالة ابن القارح والردّ عليها إلى بناء رحلة خياليّة قصصيّة أصبح فيها منشئ الرّسالة الابتدائيّة بطلا خياليّا لقصّ قصصيّ.
التّحليل:
- اللّحظة الأولى: وصف رسالة ابن القارح والإخبار عن صفاته وسماته:
ينسب المقطع الأوّل من النصّ إلى سياق نصّيّ أشمل يجسّم فاتحة الرّسالة أو ديباجتها وقد بدا المعرّي فيها ملتزما بضوابط التّرسّل إذ استهلّ الرّسالة بالبسملة والدّعاء “اللّهمّ يسّر وأعن” ثمّ خلص بعد البسملة والدّعاء إلى الحديث عن رسالة ابن القارح الفاتحة لم يخرج من ثوابت التّرسّل الشّائعة في عصره فلم يتخلّ عن البسملة والدّعاء وتعيين المرسل إليه والحديث عن رسالته.
ما يثبت التزام المعرّي في فاتحة رسالته بأدبيّات التّرسّل في عصره جنوحه إلى تجويد اللّفظ وعنايته بتحسينه وقد وجد في أساليب البديع ما يسّر له ذلك الحرص على تجويد الفاتحة فأفرط في تسجيع الكلام (مسجور/مأجور//النّافرة/النافع//التّمجيد/المجيد) وقد عمد إلى المراكمة بين الجناس والسّجع لتوقيع نثره وتنغيمه والارتقاء به مراقي الموقّع ما يثبت تمكّنه من صنعة الأدب شعره ونثره
لم يكتف بتحسين خطابه النّثري في فاتحة الرّسالة تحسينا لفظيّا فحسب وإنّما عمد أيضا إلى تحسينه تحسينا معنويّا بأن استخدم الطّباق “الأرض/السّماء ، الأصل والفرع ) والمقابلة( تأمر بتقبيل الشّرع وتعيب من ترك الأصل إلى فرع ) لكنّ المعرّي وهو يفرط في تحسين خطابه النّثريّ لم يشذّ عمّا سار إليه الأدب العربيّ شعره ونثره في عصره من تعلّق بشروط الصّنعة وبلاغة التّكلّف وقد طغى على اللّحظة الأولى باعتبارها لحظة المفاتحة وقد اضطلعت بوظيفة الإخبار عن الرّسالة ومرسلها وهو وصف يتدرّج فيه المعرّي من وصف الرّسالة في ذاتها إلى وصف منشئها إلى وصفها في علاقتها بالمتقبّل غير أنّ هذا الوصف محكوم بالمبالغة والغلوّ والتّحويل وهو ما نهضت به الاستعارات الواصفة للرّسالة: فقد استعار لها صورة البحر ليسمو بها عن مرتبة الكلام الواقعيّ إلى مرتبة الكلام الأسطوريّ لذلك فإنّ بناء الوصف على المبالغة بداية تمهيد للعبور من دائرة الواقعيّ الممكن إلى دائرة الخياليّ الممتنع.
لكنّ حركة الوصف لم تكتف بوصف الرّسالة ومرسلها وإنّما تعدّت ذلك إلى بداية استشراف الممكن المفتوح على المستقبل المجهول فإذا بالرّسالة مطيّة إلى بداية تحسّس عالم الخيال المفتوح على الغيب والسّماء والآخرة.
تدرّج المعرّي في وصف الرّسالة ومنشئها من مرتبة الوصف الواقعيّ إلى مرتبة الوصف الخياليّ مستأنسا بالاستعارات والتّشبيهات: جعل حروف الرّسالة أنوارا للعبور بمنشئ الرّسالة من مرتبة الماجن الفاسد المفرط في العبث واللّهو في الواقع إلى مرتبة التّائب النّاعم بغفران الله
سلك المعرّي مسلكا خياليّا في تهويل قيمة الرّسالة معتمدا الافتراض والإمكان….
وبهذا النّحو يجد المعرّي في نهاية فاتحة الرّسالة في الخيال أسلوبا قصصيّا يتوسّله في تهويل المشاهد وتضخيم الوصف وبناء الممكن على الموجود الواج:منطلق الوصف موصوف موجود متعيّن (رسالة ابن القارح) ابن القارح شخصيّة تاريخيّة موجودة واقعيّة عايشت أبا العلاء المعرّي ومنتهاه عالم خياليّ قصصـيّ س6: إنّ فاتحة الرّسالة لم تخل من بوادر فنّية تبشّر بالاستعداد للقفز عن عالم الواقع والأرض إلى عالم الخيال والسّماء.
لكن ما يلفت النّظر في وصف رسالة ابن القارح واقعيّا كان أم خياليّا هو تعليق المغفرة الإلهيّة بمجرّد الكلام وهو وجه من وجوه التّهكّم من ابن القارح المستسهل لأمر المغفرة والثّواب والتّوبة لأنّه قد عبّر في رسالته الابتدائيّة بعد أن أفرط في اللّهو والمجون وإتيان المفاسد عن نيّته في التّوبة طامعا في الغفران الإلهيّ وهذا ما لا يقبل به المعرّيّ لذلك ظلّ يقرن في حديثه عن رسالة ابن القارح بين الكلام والمغفرة والحال أنّ المغفرة لا تنزع بالكلام بل بالأفعال الصّالحة والأخلاق الفاضلة وبذلك فإنّ المعرّي لا يخفي منذ فاتحة الرّسالة موقفه من بعض التّصوّرات السّائدة في عصره وبذلك يصبح للخطاب وجهان ظاهر وباطن : ظاهر الخطاب الوصفيّيّ مدح واستحسان وتعظيم في حين أنّ باطنه ذمّ وسخرية وتهكّم وليس أدلّ عل ذلك من الإلحاح في وصل المغفرة الإلهيّة بالكلام دون الأفعال وهو ما أظهر ابن القارح منذ فاتحة الرّسالة بمظهر الشّخصيّة المستخفّة بضوابط الدّين الإسلاميّ
إنّ وصف الرّسالة لم يكن سوى مطيّة للانتقال من عالم الواقع والأرض إلى عالم الخيال والسّماء معتمدا الخيال الّذي وجد له في النّصّ القرآنيّ مصدرا وهذا ما جسّمه اقتباس آيتين قرآنيّتين تتّحدان في جعل الكلم الطّيب والفعل الصّالح معبرين إلى السّماء والجنّة والمغفرة. لكنّ المفارقة الّتي عمد إلى بنائها في النّصّ هي المفارقة بين جعل مطيّة ابن القارح إلى المغفرة دون العمل من جهة وما دلّت عيه الآيات من تلازم بين الكلم الطيّب والفعل الصّالح
نحا المعرّي في المقطع النّصّي الأول منحى بناء خطابه على ازدواج بين ظاهر قريب غير مقصود وباطن بعيد عليه القصد وقد تيسّر له ذلك باستخدام بعض الكلمات بالأضداد كصفة “المسجور”الّتي تدلّ على الامتلاء والخواء أو كلمة البدع الزّاخرة الّي تعني الجميل الرّائق والقبيح المذموم شرعا وعلى هذا النّحو يبدي أبو العلاء منذ فاتحة الرّسالة تهكّمه على ابن القارح وسخريته منه معتمدا أسلوب الذّمّ بما يشبه المدح .
من وجوه السّخرية أيضا تلك المفارقة الّتي أنشأها المعرّي بين ما ينصّ عليه الشّاهد القرآنيّ من تلازم بين العمل الصّالح والكلام الطيّب من جهة وما يظهر به ابن القارح في تعويله على الكلام دون الفعل من جهة ثانية
يظهر المعرّي ابن القارح في خاتمة مقدّمة الرّسالة بمظهر الشّخص المستخفّ بمفهوم العفو الإلهيّ لاعتقاده بأنّ مجرّد الكلام والنّيّة أمر ضامن للعفو الإلهيّ ثمّ إنّ مسار الخطاب هيّأ في خاتمة مقدّمة الرّسالة لحركة العروج من عالم الأرض والواقع إلى عالم السّماء والخيال وليس هذا التّمهيد سوى دلي على وعي أبي العلاء المعرّي بذلك الاستطراد الّذي سيعتمده في الخروج عن مقتضيات الرّسالة إلى بناء قصّة خياليّة تكسر تدرّج الرّسالة لتفصل بين المقدّمة فيها والرّدود على أسئلة ابن القارح
2. اللّحطة الثّانية: رحلة خياليّة قصصيّة أصبح فيها منشئ الرّسالة الابتدائيّة بطلا خياليّا لقصّ قصصيّ.
استهلّ الرّاوي قسم الرّحلة بمفارقة بين دلالة الجملة السّرديّة الأولى على الماضي “قد غرس… ودلالة الجملة الدّعائيّة على المستقبل وهي مفارقة مقصودة اعتمدها المعرّي للتّهكّم على ابن القارح وحمله على الطّمع في الجنّة وقد استحضر ابن القارح في مستهلّ الرّحلة وقد اصبح شخصيّة قصصيّة بصفات المولى /الشّيخ /: تفنّن في إخراجه بمخرج الشّخصيّة الورعة المتدينة التّقيّة المتّزنة لكنّ التّقدّم في مشاهد رحلته سيكشف زيف تديّنه بما يأتيه في عالم الجنّة من أفعال فاسدة لا تخرج عن ملاحقة النّساء وإفراط في طلب الخمرة.
أمّا أسلوبيّا فقد غلبت الجمل الاسميّة على الجمل الفعليّة: ولمّا كانت الجملة الاسميّة دالّة بأصلها على الثّبات والاستقرار فقد بدا عالم الجنّة هدئا مستقرّا منسجما مفتقرا إلى الاضطراب واختلال التّوازن
أمّا الجمل الفعليّة المستخدمة فهي إمّا جمل دالّة على الأقوال وإمّا جمل دالّة على تعاود الأفعال وتكرّرها أمّا الإطار المكانيّ الّذي ظهر في أوّل الرّحلة فهو الجنّة باعتباره مكانا متضمّنا موصوفات فرعيّة جزئيّة وقد تمثّلت تلك الموصوفات الفرعيّة الجزئيّة المكوّنة لإطار الجنّة في الشّجر والولدان وأنهار ماء الحيوان وأنهار اللّبن والخمور.
إنّ ما يجمع بين هذه المكوّنات الموصوفة هو تعلّقها بما هو حسّيّ مادّيّ يحيل إلى الشّهوات والرّغبات : إنّ عالم الجنّة المرسوم في رحلة الغفران ينطق باللّذة ويرشح بالرّغبات ووصف الجنّة بهذه الصّورة ليس إلاّ وصف محاكاة ساخرة لبعض التّصوّرات السّائدة الّتي تختزل عالم الجنّة في بعده المادّي الشّهوانيّ.
العالم الموصوف عجيب أنتجه خيال المعرّ فتوسّل إلى ذلك ثلاث أساليب في العروج إلى العالم الموصوف العالم الخياليّ العجيب:
تمثّل الأسلوب الأوّل في التّضخيم المتجلّي في وصف شجرة الجنّة بتضخيم صورتها ومبالغة في إظهار امتدادها واتّساعها (كلّ شجرة منه تأخذ من المشرق والمغرب بظلّ غاط
أمّا الأسلوب الثّاني فهو التّركيب بين متباعدات في الواقع كالتّأليف بين الأنهار وماء الحياة والألبان والرّحيق والخمر”صعد من اللّبن المتخرّقات …..”
أمّا الثّالث فأساسه التّحويل والتّغيير في هويّة الموجودات الدّنيويّة مثلما فعل مع أنهار اللّبن إذ لم تعد الأنهار متأثّرة بالزّمان مفتوحة على التّحوّل والتّبدّل بل أصبحت خالدة لا تتأثّر بفعل الزّمان.
تشكّل الموصوفات المكوّنة لعالم الجنّة في نصّ الرّحلة صورا من صور الخيال المصنوع بأساليب ثلاثة هي أساليب التّضخيم والتّركيب والتّحويل وقد وجد المعرّيفي الشّعر والنّصّ القرآنيّ وأساطير العرب والواقع الدّنيويّ مصادر اعتمدها في بناء عالم الرّحلة الخياليّ وهذا ما يفسّر استشهاده ببعض الآيات القرآنيّة وإحالته على بعض أساطير العرب في الجاهليّة كشجرة ذات أنواطفضلا عن العودة إلى الواقع الدّنيويّ إمّا لاستمداد عناصر منه وإعادة تركيبها أو العمل على التّضخيم فيها أو السّعي إلى تحويلها لذلك ظلّ وصف مكوّنات عالم الجنّة مفتوحا على مقارنات بينها وبين نظائرها في العالم الدّنيويّ كوصفه لأنهار الخمرة (جعافر من الرّحيق المختوم) تلك الرّاح الدّائمة لا الدّميمة ولا الدّائمة فوصف الخمرة ظلّ مشدودا إلى مقارنتها بصورتها في الدّنيا وبهذا النّحو فإنّ عالم الرّحلة في رسالة الغفران وإن بدا عالما خياليّا مفتوحا على العجيب والغريب فإنّ المعرّي لم يبنه بل استلهم مصادر ثقافيّة متعدّدة كالقرآن والشّعر والأساطير والخرافات وعمل على صهرها لينشئ منها عالم قصصيّ بديع لكنّ الخيال لم تقتصر وظيفته على تحقيق الإمتاع القصصيّ بل تتعدّاها إلى النّهوض بوظيفة نقديّة مفادها سعي المعرّي إلى السّخرية من بعض التّصوّرات السّائدة في عصره لاختزالها عالم الجنّة في الشّهوات والمتع واللّذائذ الحسّية دون غيرها. على أنّ ما يلفت النّظر في نصّ الرّحلة هو استواؤه نصّا قصصيّا جامعا تتداخل فيه النّصوص وتتفاعل كالنصّ الأسطوريّ والنّصّ القرآنيّ ونصوص الشّعر ونصوص الحكايات الشّعبيّة وبذلك تتأتّى مزيّة المعرّي من قدرته على دمج تلك النّصوص المختلفة في نصّ قصصـيّ جامع محكوم بالتّنازع بين الواقعيّ والعالم الخياليّ