لعلّ أوّل ما يلفت النّظر في قصص البخلاء هو عنصر الوصف والتصوير في النادرة . والجاحظ له قدرة على الوصف والتصوير الخارجيّ للحدث والشّخصيّة أو الدّاخلي في انعكاس الموقف على الشخصيّة المحوريّة في تصرفاتها وتعبيراتها.
ولعلّ عنصر التّصوير هو من أكثر العناصر سيادة في الأدب الذي يصوّر الطّبائع. ذلك أنّ الوصف والتصوير في النادرة والحوار وسائل يستخدمها الكاتب في تحليل شخصيّة البطل وتصوير مزاجه وطبيعته واستجاباته ومظاهر سلوكه.” حتّى نصل من ذلك إلى العقدة الأصليّة.
وقد أجاد الجاحظ في توظيف هذا العنصر بمستويات مختلفة حسبما يستدعيه الموقف. فأحيانا يقتصر تقديم الشّخصيّة أو الحدث من خلال الوصف العاديّ كما في تقديم شخصيّة قاسم التّمّار. “وكان قاسم شديد الأكل شديد الخبط قذر المؤاكلة وكان أسخى النّاس على طعام غيره، وأبخل النّاس على طعام نفسه”.
وأحيانا يبلغ التّصوير حدّ الرّسم الكاريكاتوريّ للشّخصيّة كما في صورة عليّ الأسواريّ على الطّعام. وهي من الصّور الّتي حرص الجاحظ فيها على تحريك الشّخصيّة تحريكا مضحكا نابضا بالحركة. يقول الجاحظ: ” وكان إذا أكل ذهب عقله وجحظت عينه وسكر وسدر وانبهر وتربّد وجهه وعصب لم يسمع ولم يُبصر. فلمّا رأيت ما يعتريه وما يعتري الطّعام منه. صرت لا آذن له. إلاّ ونحن نأكل التّمر والجوز والباقلي ولم يفجأني قطّ وأنا آكل تمرا، إلاّ استفّه سفّا وحساه حسوا. وزاد به زدوا ولا وجده كثيرا إلاّ تناول القطعة كجمجمة الثّور. ثمّ يأخذ بحضنيها ويقلّها من الأرض ثمّ لا يزال ينهشها طولا وعرضا ورفعا وخفضا حتّى يأتي عليها جميعا.”
وأحيانا يأتي الحديث في صورة وصفيّة نابضة بالحياة وكأنّنا نشاهد الحدث ممثّلا أمامنا في فيلم. كما في حادثة الشّيخ الأهوازيّ الّذي كان يأكل طعامه على ظهر سفينة وليس معه غير رجل واحد وهو راوي القصّة. فطلب الشّيخ من الرّاوي أن يصرف عينه عن الطّعام لأنّه يخاف العين. فقال الرّاوي:” فوثبت عليه. فقبضت على لحيته باليسرى ثمّ تناولت الدّجاجة بيدي اليمنى، فمازلت أضرب بها رأسه حتّى تقطّعت في يدي. ثمّ تحوّل إلى مكاني فمسح وجهه ولحيته ثمّ أقبل عليّ فقال: قد أخبرتك أنّ عينك مالحة، وأنّك ستصيبني بعين.”
ويتّخذ الجاحظ التّصوير أداة لاستشفاف الحركات النّفسيّة للبخيل واستبطان الأحاسيس واستكشاف طبيعة البخيل من خلال مظهره الخارجيّ وسلوكه وتصرّفاته إزاء المواقف المختلفة.
والجاحظ” مولع بهذا النّوع من البحث والتّتبّع للحالات النّفسيّة الخفيّة وتبيّن الحركات الشّعوريّة المختلفة وملاحظة الصّلة بينهما وبين الحركات والسّمات الظّاهرة. من كلمة عابرة، أو إشارة طائرة أو لفتة سريعة معجلة.”