لقد ثبت عند أغلب النقّاد ودارسي رحلة الغفران أنّ الإضحاك في الرّحلة على ما فيه من إمتاع وتندر يعبر في العمق عن موقف. فالسخرية في رأيهم تخفي أزمة وألما. والضّحك يبطن مأساة ومرارة والإمتاع إلى النّقد والإضحاك إلة الفضح والتّندر إلى التّعرية عن خفايا مجتمع أفلست أخلاقه وتفكّكت علاقاته وتدهورت مثله وقيمه.
ما يؤكّد أن السخرية في الرحلة ليست شكلا من أشكال التعبير فقط. وليست عنصرا أسلوبيّا واختيارا أدبيا فقط وإنّما أساساهي موقف فلسفيّ يكشف مرارة وألما. فالإضحاك في رحلة الغفران نقد و احتجاج
فالسّخريّة إذن وظيفيّة هادفة. ولا غرابة، ألم يقل الجاحظ في البخلاء: ” ومتى أريد بالمزح النّفع وبالضّحك الشّيء الّذي له جعل الضّحك، صار المزح جدا والضّحك وقارا”؟. ألم يقل أيضا في الحيوان ” ولم تدر أنّ المزاح جدّ إذا اجتلب ليكون علّة الجدّ”
وعلى هذا الأساس، بدت لبعض النقّاد السّخرية في الرّحلة المجازية تأسيسا لمثل في عالم بلا مثل ودعوة إلى الفضيلة في مجتمع الرّذيلة. فيكون الإضحاك بما فيه من مرارة ووجع وعبث وسيلة إلى بيان موت القيم الأصيلة وتراجعها من منظور أديب زاهد لا مصلح اجتماعي ذلك أنّ السخرية من حيث هي احتجاج وهجاء وثورة على الموجود لم ترتقي إلى رتبة المشروع الهادف باعتبار انعدام التماسك النظري وخفاء المواقف لأجل الإغراب اللّغويّ وتوعير اللّفظ واعتياصه من جهة وغلبة التلميح على التصريح والإشارة والتّرميز على الوضوح والجلاء.
حتّى أنّ محمّد عزّت نصر اللّه قال عن المعرّي إنّه ” يسوق كلامه بقالب غامض فيه حشد من الألفاظ الغريبة كأنّه يريد أن يعمي على النّس فلا يفهم أغراضه فيها غير النّخبة من العلماء” ومهما يكن من أمر خفاء السّخرية والتلميح في الهزل فإنّهما يظلاّن ضربا من الاحتجاج المقموع على مجتمع وقد ألح طه حسين كثيرا على هذا الفهم وعلى ما يحفل به نصّ الغفران ويزخر من سخرية وعبث وفي هذا السّياق قال” من قرأ رسالة الغفران وأراد أن يفقه معناها حقّ الفقه، احتاج إلى دقة ملاحظة وحذق وفطنة وبعد نظر ونور بصيرة وإلى أن يدرس روح الكاتب فيحسن درسه ويعرف أغراضه فإذا لم يوقف إلى ذلك مرّت به رسالة الغفران وهو يظنّها من أقوم كتب الدّين”
هكذا ثبت لطه حسين ورسخ عنده أن الهاجس المركزي في رسالة الغفران هو السخرية من المعتقدات الدينية الشائعة في عصره.
فالمعري في ظنه في رسحلة الغفران نقد كثيرا من مألوف النّاس ولكنّه سلك إلى هذا النقد طريق السخرية. فكان خصومه شديد الوقع، وخّاز اللذع لا يفوقه في ذلك إلاّ بديع الزّمان الهمذاني في رسائله” وقد ألحّ طه حسين كثيرا على هذا الفهم دون غيره واعتبر نفسه من الأوائل الّذي ن اهتدوا إلى هذا التّأويل لوظيفة السّخرية من حيث هي نقد للمعتقدات الدّينيّة الشّائعة. ففي رأيه أنّ ” أبا العلاء يسلك في هذه الرّسالة إلى النّقد مسلكا خفيّا تكاد لا تبلغه الظنون… .
على أنّهم لم يفهمو منه إلاّ الظّاهر الّذي يلمس والصّريح الذي لا يشك فيه كالأشعار الإباحيّة الّتي رواها عن بعض الزنادقة. فأمّا نقده الخاصّ فقلّما فطنوا إليه”. وقد نرى في موقف طه حسين هذا ضربا من ضروب استحضاره لأزمته الذّاتية مع شيوخ الأزهر. ومن ثمّة قد يكون لصراعه معهم تأثير في قراءته لرسالة الغفران وتأويله لوظيفة فنّ السخرية فيها. ولا غرابة فأوجه الشبه بينه وبين المعرّي كثيرة على نحو نجزم معه أن طه حسين يسقط ذاته ورؤيته على أدب المعرّي لا سيّما وأنّ التّواصل الرّوحيّ بينهما عميق.
أمّا زكي المحاسنيّ في كتابهّ أبو العلاء ناقد المجتمع فإنّه أميل إلى اعتبار أنّ السّخرية في الرحلة المخيّلة لها وظيفة مزدوجة فإذا كان طه حسين يختزل الغاية من الإضحاك في المعتقدات الدّينيّة السّائدة فإنّ المحاسني يعتبرها في الآن نفسه من المعتقدات وابن القارح الشخص حيث قال مؤكّد هذه الوظيفة الثّنائيّة للسخرية ” لا أرتاب في أنّ المعرّي حشر في هذه الرّحلة مغامز لذعه ومطاوي تهكمه بكثير مما تواضع عليه الناس في وصف الدّين… ولست أشكّ في أنّه أحبّ أن يداعب ابن القارح كما يداعب الداهية المحنّك شيخا مهووسا ليجعله هزأة المتهكّمين وسلوة الساخرين”
وإذا كان المحاسني أميل إلى اعتبار السخرية ثنائية الوظيفة فهي من المعتقدات وابن القارح فإنّ محمّد مندور في كتابه “في الميزان الجديد” يعتبر أنّ ما نجده في رحلة الغفران من إضحاك ليس سخرية وإنّما أدخل في باب العبث العقلي المؤمن بإمكانية تحقّق كلّ شيء نظريّا واستحالة هذه الإمكانية عمليّا في الآن نفسه. علىنحو تكون السخرية العلائية أدخل في باب الحيرة والعبث ولا عجب فالأديب السّاخر يعيش أبدا حالة من عدم الثّقة وفي هذا السّياق يقول محمّد مندور ” من الواضح أنّ ما نسمّيه سخرية أبي العلاء ليس شيئا من كلّ هذا وإنّما هي عبث يأس” عبث رجل استوى عنده كلّ شيء لأنّه لا يؤمن بغير ألمه”.
مقالات ذات صلة:
- الإضحاك في رحلة الغفران نقد و احتجاج
- السخرية في رحلة الغفران إمتاع
- آليات السخرية من ابن القارح في رحلة الغفران
- الإضحاك في رحلة الغفران حاجة نفسية
- الإضحاك في رحلة الغفران تقليد أدبي
- الإضحاك في رحلة الغفران بين الحاجة والاحتجاج
- تجليات الخيال في رحلة الغفران
- مصادرالخيال في رحلة الغفران
- مفهوم الخيال في رحلة الغفران
- الجرأة في رحلة الغفران
- تدريب على إنتاج مقال أدبي رحلة الغفران
- إحكام البناء في رحلة الغفران
- إحكام البناء في قسم الرحلة ( الجزء الثاني)
- إحكام البناء في رحلة الغفران ( الجزء الثّالث
- السخرية في رحلة الغفران الآليات والمقاصد
- السارد في رحلة الغفران أنواعه و مواقعه
- وظائف السارد في رحلة الغفران:
- السخرية من ابن القارح
- النسيج الفني المثير:توليد الحكاية من نصوص تراثية
- المعري محاجج لواقع المجتمع: الطريقة والقضايا والغايات
- المعرّي محاجج لثقافة العصر: